«السماء تهرب كلّ يوم»… الحركة والثبات وجمع الأضداد
منال مكداش
تُصّور لنا كاتيا الطويل في روايتها الأولى «السماء تهرب كلّ يوم» الصادرة عن دار «هاشيت أنطوان» نوفل ، الأضداد التي تتشكّل منها الحياة. فكاتيا الطويل في روايتها الأولى «السماء تهرب كلّ يوم» ذات الغلاف الراقي القاتم، جمعت المتناقضات. فشخصياتها كلّها هاربة، وثوابتها كلّها مثالية تقف على أرض صلبة لا هزّات فيها. شخصياتها الهاربة تروي قصصها لجامد يكتم السرّ ولا يفضح. شخصيات توقفت للحظات، رامية حملها وسرّها، تخبره للمقعد الخشبي الثابت في المكان الذي يحمل الخلاص لكثيرين من البشر.
إنّ رمزية المكان وما تحمله من راحة لمئات البشر كانت الأرضية التي منها انطلقت الأحداث، لتحملنا إلى عالم الشخصيات، لتخبر عن ضياعها في العالم الكبير المجهول وتخبرنا عن عجزها عن التحليق عالياً.
إنّ شخصيات الرواية هاربة لتحقّق ذاتها، ولكنها في النهاية لم تحصد إلا الخيبات رغم ثورتها وتمرّدها. فالفتاة الهاربة من أهلها بحثت عن الحركة في حياتها ولكنها أضاعتها. بينما حبيبها الثابت الذي لم يهرب عاش كما هي خيبة عدم القدرة على حبّ غيرها.
كذلك الشاب الثائر على أهله، والذي أراد التحرّر من كلّ ما يرتبط بالتطرّف الديني والإرهاب، يجد ثباته في علاقته مع شابة اختارت الرضوخ لقدرها والاستسلام لمصيرها. فعملت في بيت المختار وطوت فرحها وجمالها وحبّها للحياة والمرح مضحية بكل ذلك من أجل سعادة أختها.
شكّلت أحداث القصّة حلقات مترابطة على الرغم من استقلال حكايات أفرادها، فالقارئ حين ينتقل لقراءة الفصل التالي، يسأل نفسه من هي الشخصية الثانوية التي ذكرتها الكاتبة في فصلها السابق والتي ستكون بطلة فصلها اللاحق؟ وهكذا، تكون الكاتبة قد أهملت التمسّك بالإطار التقليدي للرواية، شأنها شأن معظم الكتّاب في عصر ما بعد الحداثة، فتحرّرت من عقدة «العقدة»، لتنساب أحداث قصصها كنهر لم تعترضه عقبات، انسابت بلغة شيّقة راقية، بيّنت ثقافة الكاتبة وعمق معرفتها.
شخصيات الكاتبة لا تحمل أسماء، فهي تحرّرت من فرديتها لتحلّق في المطلق. وعلى الرغم من تنوّع الأحداث وحركتها، فإننا نشعر بالاستقرار، والثبات الذي ظهر واضحاً في لغة الكاتبة. فلم نشعر بالاضطراب وصوت طقطقة الخشب من جرّاء ضغط الأيدي والأجساد عليه تملأ آذاننا.
في قصتها «السماء تهرب كل ّيوم» تناولت كاتيا معضلات كبيرة يعيشها عالمنا اليوم، فطرحتها بشكل غير مباشر وأضاءت عليها، وأظهرت عمق الصراع الذي يعيشه الفرد حين يحاول الانفصال عن الجماعة. شخصيتها التي أحبّت يهودياً لم تستطع التحرّر من المبادئ التي تربّت عليها لتشتري حبّها مع أنّها سألت نفسها مئات المرّات: لماذا لا تشتري سعادتها؟
وأيضاً، شخصية الأخ المتعصّب تعرض لنا معضلة الإرهاب والجهل التي تعاني منها مجتمعاتنا اليوم .
المتناقضات في رواية كاتيا الطويل كثيرة، بدءاً من العنوان الذي يصوّر حركة السماء على رغم ثباتها، سماء رحبة ثابتة تهرب مع حركة كلّ يوم جديد، ثم تنتقل إلى الأماكن فتظهر الكنيسة في قصصها كأرض الخلاص التي وجد فيها الجميع راحتهم الموقتة في الجلوس على المقعد الثابت المهترئ بينما هم يهربون من أماكنهم المتحرّكة، من أعمالهم، وبيوتهم. أيضاً يبرز لنا الضدّ حين صوّرت العقل بصورة الكاهن الثابت الذي لا يخاف، يراقب ولا يتحرّك، يحاور ولا يفرض رأيه، بينما ظهر رجل الدين المسلم بصورة النفس الأمّارة بالسوء، يحبّ النساء الصغيرات، قابعاً في الفقر، جامداً جاحداً لا يقبل المتغيرات، مغلقاً لا ينفتح على الآخر.
«السماء تهرب كلّ يوم»، رواية صوّرت حياة البشر، حاورت أفكاراً تدور في عقولنا و لم تحاكِ مشاعرنا، فلم نحزن على شخصياتها ولم نستطع مشاركتها أفراحها، بل خاطبت عقولنا وأثارت التساؤلات حول موقف الكاتبة من المعضلات التي طرحتها.