الثورة التي غيّرت وجه العالم
ناصر قنديل
– يطغى على مقاربة انتصار الثورة الإيرانية في ذكراها، تناولُها من زاوية عمقها الإسلامي، وهو أمر يحق لمريديه التباهي به كمصدر رئيسي للإنجاز والدعوة إلى التمعّن لما فيه من عناصر قوة ومصادر إلهام وقدرة على المواءمة والمواكبة، ويجب على الخصوم والمحللين الموضوعيين التوقف أمامه كمفردة فكرية وثقافية تمكّنت من تجديد أطروحتها والتقدّم نحو العصر المليء بالتعقيدات والمتغيّرات والتأقلم معه بخلفيتها العقائدية الدينية الضاربة عميقاً في التاريخ، لكن في الحالتين مصدر الاهتمام هو حجم الإنجاز التاريخي الذي تمكّنت هذه الثورة من تحقيقه خلال زمن قياسي وفي ظروف هي غاية في القسوة والخطورة.
– خلال الفترة نفسها، سبع وثلاثون سنة تمكّنت كلّ من إيران وروسيا، بعد ثورة عاصفة جذرية واستثنائية وجديدة بمفاهيمها، من دخول عالم الكبار وانتزاع الاعتراف العالمي لها بمكانة ندية، ودور محوري في صناعة السياسة، فبين عامي 1917 و1954 كانت موسكو تنتقل من العاصمة المحاصرة بثورتها إلى الشريك في صياغة نظام عالمي جديد، بقي سائداً حتى سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، وتمكّن أميركا من التحكّم منفردة بإدارة العالم، وعينها على إيران، التي نجحت خلال الفترة نفسها بين العامين 1979 و2016 أن تنتزع اعتراف العالم أنها عاصمة صناعة السياسة في العالم الجديد، وأنها ركن غير قابل للتجاهل في نظام إقليمي جديد ونظام عالمي جديد.
– نجحت روسيا من قبل، ونجحت إيران من بعد، في إثبات أنّ بمستطاع الشعوب إذا توفرت العزيمة والإرادة والخطط والمثابرة والصبر، أن تحفظ استقلالها، وأن تبني مشروعها التنموي في ظلّ الحرب والحصار، وأن تبني اقتصاداً ثقيلاً قوياً قادراً، وجيشاً جباراً، وقوة مهابة، ودبلوماسية رفيعة المقام، واعتراف الخصوم بعلوّ كعبها، وحتمية الشراكة معها.
– تمتاز تجربة إيران الثورية عن التجربة الروسية في كونها ولدت في ظروف مختلفة تجعل مهمة الصمود أصعب وأقسى، فالثورة الروسية تزامنت مع الحرب العالمية الأولى وما رافقها من غياب مركز عالمي حاكم، حيث تتهاوى الإمبراطورية العثمانية، ويتقدّم الشريكان الفرنسي والبريطاني لوراثتها، والقيصرية الروسية شريك ثالث، يريحهما خروجه من الشراكة بقوة الثورة، وقبل أن يستفيقا على خطرها يصعد نجم النازية مداهماً فارضاً استحقاقاته التي توّجت في الحرب العالمية الثانية، حيث روسيا شريك لا غنى عنه، وحيث جاء نهوض الشريك الجديد الذي مثلته أميركا الصاعدة، لتكون نتائج الحرب العالمية الثانية تتويجاً لمكانة روسيا كدولة عظمى، استدعى إسقاطها حروباً ومنافسات ومؤامرات دامت أربعة عقود حتى سقط الاتحاد السوفياتي، وفي المراحل كلّها كانت الجغرافيا البعيدة لروسيا عن مراكز الطاقة والملاحة ومصادر الأمن القومي الأميركي سبباً كافياً للاكتفاء بإبعاد موسكو عن الشراكة.
– في حالة إيران، كانت ولادة الثورة في زمن التصعيد الأميركي، بين حربي فيتنام وأفغانستان، والهيمنة الأميركية المطلقة على الشرق الأوسط بعد سقوط تجربة جمال عبد الناصر، والتحوّل الكبير مع «كامب ديفيد»، ولذلك ووجهت إيران منذ اليوم الأول للثورة بالحرب العراقية المموّلة خليجياً والمدعومة أميركياً، كما بالحصار والعقوبات، وإيران في قلب العالم القديم، حيث لا مجال للحياد الأميركي، فمن حولها يتقرّر مستقبل الطاقة و«إسرائيل» والقوة الصاعدة للإسلام، وإيران ليست كائناً حيادياً أو قابلاً للحياد في المحاور الثلاثة، فهي في أمن «إسرائيل» مصدر خطر عن سابق وعي وإصرار، تراها وتصرّ على ترجمة رؤيتها بالأفعال أنها غدّة سرطانية تجب إزالتها، وفي أمن الطاقة هي حارس مضيق هرمز، حيث يخرج كلّ صباح عشرون مليون برميل من النفط، وفي الإسلام هي صاحبة مدرسة عقائدية لفقه المقاومة والثورة والدولة.
– استدعت المواجهة مع إيران وخيارها المقاوم، ومَن اختارها حليفاً، عقوداً من الحروب المفتوحة، منها غزو أفغانستان والعراق، وحروب «إسرائيل» على لبنان وفلسطين، ومشروع العثمانية الجديدة، وحرب استهداف سورية، وفيها العقوبات والحصار، ويتوّج الإيرانيون صمودهم في ذكرى انتصار ثورتهم هذا العام بانتزاع الاعتراف العالمي بمكانتهم كدولة عظمى، ونجاحهم في تقديم نموذج مبهر للعالم التواق إلى الاستقلال والتنمية المستقلة، وإلهام حلفائهم من الدول العظمى كروسيا والصين للمزيد من الصمود والثبات، والشدّ على يد حلفائهم في محور المقاومة لمواصلة العزم والحزم حتى تحقيق النصر. وها هي إيران ركن لا يمكن تجاهله في النظام الإقليمي وشريك قادم لصياغة نظام عالمي جديد.
– يستحق قائد الثورة وملهمها ومفجّرها الإمام الخميني التحية والإكبار لعظمة الإنجاز، ويحق للشعب الإيراني عظيم الاعتزاز.