ستبقى غزة محراب الإيمان بفلسطين
د. سلوى خليل الأمين
نسيح فوق أفكارنا الحزينة تارة وفوق وهج انتصارت المقاومة حيناً آخر، إذ كيف لنا أن نسقط من ذاكرتنا انتصار المقاومة المظفر على العدو الصهيوني في عام 2006 وقبلها في عام 2000، فهذه التواريخ تشكل ذاكرتنا الحية على الدوام بكامل تفاصيلها وأبعادها ومشهدياتها البشعة المتخمة بإجرام بني صهيون وحقدهم الأعمى الذي ضُخّ عبر قنابلهم الذكية الحارقة التي التهمت البشر والحجر في لبنان من أقصاه إلى أقصاه، والذي جعل دماء شهداء المقاومة الأبرار تروي تراب الجنوب وترفع رايات الاستشهاد نصرا مؤزراً يُحسب له مليون حساب حين تخطئ «إسرائيل» مرة جديدة، بإعادة حروبها المدمّرة على لبنان.
اليوم والناس يُقتلون على الطرقات في «غزة هاشم الفلسطينية» منذ أسبوع وأكثر، والعرب نيام، والمقاومون على الزناد، والبلد على كفوف العفاريت في الداخل والخارج. ما زال المرتهنون للشيطان يدينون المقاومة في غزة ولبنان، وهي القادرة دوماً على توجيه صواريخها إلى العمق «الإسرائيلي» في «تل أبيب» و«ديدمون»، وحيثما تصل زخات سواعدهم المتاخمة حدود المجرات، ولا تزال مؤمنة بأنّ فلسطين لأهلها العرب المشرّدين منذ أكثر من سبعة وستين عاماً من قبل عدو صهيوني مجرم ما برح يمارس شروره وحروبه المبرمجة على أرض فلسطين العربية بصلافة تامّة وعقم تفكير، وبوسائل إعلامية رخيصة تعمل عن سابق إصرار وترصّد على حذف مصطلحيْ فلسطين والمقاومة من أذهان الأجيال العربية الصاعدة، بحجة أنّ «إسرائيل» أمر واقع لا يجوز مقاومته، وأنّ سلاح المقاومة سلاح ميليشياوي، رغم أنّ المقاومة لم تفسد في الأرض مثلما أفسدوا، ولم تنهب الوطن مثلما نهبوا، ولم تقتل الناس من دون وجه حق مثلما قتلوا، ولم تقتل الناس بالمتفجرات مثلما فعلوا بعقلهم البارد الذي لا يحمل أي رأفة إنسانية، ولم تسرق خزينة الدولة مثلما سرقوا. هذا واضح للعيان عبر ملياراتهم المنهوبة من خزينة الدولة المعتلية عتبات قصورهم وتصرفات عائلاتهم التي لا تعرف الآن الفقر والبؤس والحاجة والموت على أبواب المستشفيات، ولا استجداء لقمة العيش عبر الوقوف في الشوارع وأمام أبواب الوزارات والدوائر الرسمية مطالبة بأحقية العامل والموظف بالحصول على سلسلة الرتب والرواتب التي تسدّ حاجة المحتاج إلى العيش الكريم وتحرك العجلة الاقتصادية في الوطن، بعيداً عن وقفات الذلّ وهدر الكرامات والارتهان للعدو الصهيوني ـ وما أكثر العملاء ـ وحلفائه من أميركيين وأوروبيين وخليجيين، فضلاً عن أنّ قادة المقاومة لا يعرفون رحلات النقاهة إلى أوروبا وشرم الشيخ والبحر الأحمر والمنتجعات الاسترخائية التي تهدّئ الأعصاب، ولا الرحلات الباريسية المتواصلة ومقاهي الشانزيليزيه وساحة الكونكورد وبوتيكات لفوبور سانت أونوريه» الراقية التي تتزيّن بأزياء فالنتينو ولانفان وكريستيان ديور وشانيل وهيرميس وغوتشيه وغيرها من دور الأزياء العالمية الذائعة الصيت والباهظة الأثمان، التي تفترض على من يدخلها أن تكون جيوبه متخمة بالمال الوفير!
نذكر ونتذكر، علّها تنفع الذكرى، فنحن في شهر تموز، شهر المقاومة بامتياز، شهر الكرامات المرفوعة إلى عنان السماء، شهر الفجر الطالع من بين ركام المواعيد الغارقة في محارات العقول الهرمة والجبانة والمتخاذلة عن الدفاع عن فلسطين. هو الشهر اليقيني المتميّز في عام 2006 بمقاومة العدو الصهيوني على أرض الجنوب اللبناني، وفي عمق بحرنا المتوسطي، حيث رست بارجتهم اللعينة في يوم لا يحسدون عليه تدكّ الجسور والطرقات، وتدمّر البيوت على ساكنيها، وإذا بصوت قائد النصر وصاحب الوعد الصادق الأمين سماحة السيد حسن نصرالله يشهّدنا ويشهّد العالم أجمع على منظر البارجة الصهيونية التي تحترق في عرض البحر مقابل شاطئ الروشة من قبل رجال الله في الميدان. تلك كانت العلامة الفارقة التي ساهمت في رسم بداية تأهيل الحلم العربي الكبير من جديد، وبداية عصر المقاومة الذهبي، المزنّر بالانتصارات المظفرة التي هزمت جيش العدو الصهيوني الذي قيل إنه لا يُقهر، والذي أخاف الأعاريب المتخاذلين عن دعم فلسطين وشعب فلسطين، المذبوح اليوم بالمجان في «غزة هاشم»، أرض الصمود والبطولات والنصر الأكيد، من دون حسيب أو رقيب!
فيا غزة، إنّ كلّ دمعة حرّى من عيون أطفالك ستكون صاروخاً يفجر حيفا ويافا وما بعدهما. إنّ دماء أهلك غالية على كلّ عربي مؤمن بقدسية النضال والجهاد لاستعادة الحق العربي الضائع في فلسطين، وإنّ المقاومة الغزية ستجرف حربهم المسماة «الجرف الصامد»، كما ستجرف كلّ من يدعم «إسرائيل» في السرّ والعلانية، ومن يؤيد سياسة الولايات المتحدة الأميركية بفتح الموانئ لقواعدها العسكرية الموجودة أصلاً لحماية «إسرائيل» والثروات النفطية التي تتبخر من جيوب شعوبها، كي تحط في خزائنهم السوداء الداعمة للعدو الصهيوني.
فيا عرب الأرض المقدسة، حماة مكة والمدينة والقدس الشريف: ماذا فعلتم وغزة تحت سيل النار المدمّرة والقاتلة؟ ألم تسمعوا ما قاله بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة «الإسرائيلية» بالأمس وهو في حالة تحدّ لكم وللعالم أجمع: «إنني لا أعرف متى تنتهي العملية»، ويقصد عملية الجرف الصامد، متابعاً: «ونحن مستعدون لاستمرارها». بلى، هو مستعدّ لاستمرارها بشراسة ووحشية لتركيع سكان غزة ومقاومة أهل غزة، في حين سمع الجميع عبر العالم قاطبة صرخة المرأة الفلسطينية الغزاوية التي قالت وهي تودع ولدها الشهيد إلى مثواه الأخير: «لن نخضع ولن نستسلم، سنهزم «إسرائيل»، هذا قدرنا، حتى لو قتلنا جميعاً، الله أكبر، عليهم جميعاً، أين حماة الإسلام والمسلمين في شهر رمضان الفضيل، أين العرب»؟ هذه الروح المعنوية العالية لا تفككها آلة حربية شرسة، ولا تكسرها طلقة صاروخية، ولا تسكتها نيران المدافع الحارقة والمارقة. فالجهاد الفلسطيني قدر الشرفاء الحاملين كراماتهم على مذبح الشهوات التي استطاعت خرق «القبة الحديد» التي أصابت المدن والمستوطنات «الإسرائيلية» بصليات نارها المتوهّجة بالنصر في سماء فلسطين.
فيا أمّة ضحكت من جهلها الأمم، مثلما قال الشاعر العربي يوماً، بتنا اليوم في حالة هستيريا من غبائكم وجهلكم وعقولكم الممسوحة بالمحارم الأميركية الصنع. لقد ضيّعتم فلسطين سابقاً، واستطعتم في عصر عبدالناصر فك الوحدة بين سورية ومصر ومحوها من خريطة النضال. لقد حاربتم سياسته المؤمنة: بأن ما أخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة، وحاربتم سورية قلعة العروبة والصمود والتصدي بتوجيه حراب ضغائنكم إلى صدرها. وقبلها وافقتم على احتلال العراق من الأميركي وتدمير جيشه وقتل علمائه ونهب تراثه الوطني، وها هو العراق اليوم مجزّأ ومفتّت وممذهب مثل ريشة في مهبّ الرياح العاتيات، أما لبنان فحدّث ولا حرج، من نأي بالنفس هو وبال على المرحلة القاسية خاصة في الزمن الفارغ الصعب، حيث لا رئيس للجمهورية، ولا انتخابات نيابية في المستقبل القريب، بل فوضى خلاقة «خناقة» على أحسن صورة ومثال، حين الكلّ في دورة نعاس عما يحصل في المنطقة وبخاصة في غزة المهدّدة باجتياح بري «إسرائيلي»، وحين المطلوب الالتفاف الوطني بوحدة متشابكة، تسقط حيثيات الهجوم الدائم على سلاح المقاومة ووجود رجالاتها في المناطق السورية القريبة من الحدود اللبنانية، والتي أثبتت الحوادث المتلاحقة بعد قيام إمارة «داعش» في العراق والشام أنّ شهداء حزب الله ومجاهديهم هم الدرع الحامية لعدم تمدّد الدولة «الداعشية» إلى لبنان الذي ما برح تحت التهديد من خلال تواجد الخلايا «الداعشية» النائمة في تلال عرسال ومنطقة عكار وأحياء طرابلس والمخيمات وغيرها من المناطق الحاملة زوراً وبهتاناً شعار أهل السنة و«الخلافة الإسلامية» في بلاد الشام.
لذلك فإنّ إسطورة النصر في عام 2006 يجب ألا تنسى لأنها لم تسقط من حسابات بني صهيون، وصمود غزة هو بوابة العودة إلى فلسطين العربية التي ستبقى عربية مهما فعل الحاقدون والأغبياء المتهالكون على قنص السلطة وجمع الثروات… ما دام هناك طفل يرمي الجمار، ويافع يحمل البندقية، وأسد غضنفر يرمي صواريخه في الاتجاهات كافة من لبنان إلى الجولان… والآن من غزة هاشم المباركة.