دلالات الاعتراف «الإسرائيليّ» بالفشل في غزّة وتداعياته

د. أمين محمد حطيط

لم يكن المراقبون في حاجة الى اعتراف «إسرائيليّ» علنيّ صريح بأن العدوان على غزة فشل في تحقيق أهدافه كي يبنوا عليه تصوّرهم لمستقبل السلوك ذي الصلة بالقضية الفلسطينية والعلاقات الدولية التي تتأثر بها، لكن للاعتراف «الإسرائيلي» الصريح وعلى لسان نائب وزير الحرب «الإسرائيلي» الذي دفع ثمن ذلك إقالة سارع إليها نتناياهو أهمية على أكثر من صعيد، خاصة أنه يقطع الطريق على رسل «إسرائيل» وأدواتها العاملين في البلدان العربية لترويج أسطورة الرعب «الإسرائيلي» والدعوة إلى الانصياع لها تحت طائلة العقاب والقتل والتدمير، فـ«إسرائيل» بزعمهم «قادرة على فرض ما تريد سلماً أو حرباً»، كما يقطع الطريق على المشككين في جدوى المقاومة وجدوى صواريخها، ويجهض بشكل أو بآخر مفاعيل نعيها السابق من قبل منتدى الدوحة القطرية وممن لجأ إليها معتزلاً شرف المقاومة.

حين يقول نائب الوزير «الإسرائيلي» داني دنون: «إنّ العملية العسكرية على غزة فشلت وديست كرامتنا» فإنه يحمّل المسؤولية لنتنياهو في هذا الأمر، وبهذه الجملة القصيرة، معطوفة على مجريات الميدان ونتائجه، يكون قد قال الكثير وألقى الضوء على مرحلة جديدة من مراحل الصراع الصهيوني العربي والإسلامي. في العنوان الرئيسي إقرار من «إسرائيل» بأن «القوة باتت عاجزة عن تحقيق أهداف «إسرائيل» العدوانية»، وأن هيبة «إسرائيل» تآكلت ولم تعد تكف لحمايتها، ويؤكد ما صنعته المقاومة الإسلامية في لبنان على يد حزب الله من إدخال «إسرائيل» دائرة «عجز القوة».

نذكر أنه في عام 2006 فشلت «إسرائيل» في حربها على لبنان، وافتضح أمر أسطورتها العسكرية الزائفة بأنها «ذات القوة لا تقهر» كما روّجت لردح من الزمن، لكن إخفاقها في الحرب يومذاك سترته بأمرين، فكان القرار 1701 الذي عملت على إخراجه بطريقة خفّفت عنها وطأة هزيمتها، مستفيدة من ظروف دولية جعلت أميركا تمسك بقرار مجلس الأمن، ساعدها، ومن عرب متخاذلين سهّلوا لها عدوانها وبرّروه. ولو لم تكن المقاومة على القدر غير العادي من الواقعية والذكاء والمرونة في التعامل لما تمكنت من تجاوز الكثير من سلبيات القرار الذي كاد يتيح لـ«إسرائيل» أن تفاخر بأنها قلبت الهزيمة في الميدان الى نصر لا ينازعها فيه أحد. لكن المقاومة الحاذقة عرفت كيف تستوعب الأمر وتفرض معادلتها على نحو واقعي وتؤكد مفاعيل انتصارها في الميدان، ما أدى إلى حماية لبنان بمعادلة «توازن الردع « التي أرستها عشية 14 آب 2006، وحرستها ثلاثية القوة الذهبية اللبنانية «الشعب والجيش والمقاومة «، الثلاثية الثابتة رغم أنف المتنكرين لها.

الأمر الثاني كان سلوك الحكومة اللبنانية حكومة مقاومة المقاومة – وفريقها السياسي المنصاع للقرار الأميركي، أي جماعات 14 آذار، الذين قفزوا فوق ما حققته المقاومة من انتصار استراتيجي تاريخي وأنكروا انتصارها، متذرّعين بما ألحقته آلة العدوان «الإسرائيلي» بلبنان من قتل ودمار، ففسروا الدمار على أنه هزيمة للمقاومة ونصر لـ«إسرائيل»، في تفسير ينم عن خبث أو جهل أاو كليهما إذ يغاير المعايير الأساسية التي تقاس بها نتائج الحروب، فالحرب بنتيجتها تقرأ من باب فرض الإرادة وتحقيق الأهداف، ولا تقرأ بحجم الخسائر لدى هذا الطرف أو ذاك، فالحرب بذاتها طريق للبذل والتضحية عبر الخسارة البشرية والمادية لكسر إرادة الخصم. وعام 2006 شاءت «إسرائيل» أمراً يتصل بالمقاومة وجوداً ودوراً وسلاحاً، وعجزت عن تحقيقه، ما يعني أنها أخفقت في حربها وسجلت المقاومة الانتصار الأكيد عليها وفقاً للقواعد والمعايير العسكرية والاستراتيجية، وما تبقى يندرج في خانة التفاصيل التي لا يعتني بها عادة الاستراتيجيون.

عام 2006 شكل القرار 1701 وسلوك جماعات 14 آذار ستاراً لـ«إسرائيل» يحجب بظنها هزيمتها في لبنان عن أعين البسطاء، لكن الإقرار «الإسرائيلي» العلني اليوم وعلى لسان نائب وزير الحرب الإقرار بالفشل في غزة قطع الطريق على مثيل لهذين الأمرين، وأعطى المقاومة الفلسطينية خاصة ومحور المقاومة عامة فرصة التمسك بالانتصار غير المنازع به، ما يساعد في منع إجهاضه بمناورات خبيثة أو بسلوكيات عميلة، ويمكّن من البناء عليه واستثماره في ميادن المواجهة الأخرى مع المشروع الصهيو ـ أميركي.

نقول هذا لنؤكد خطأ من يظن أنّ ما حصل في غزة اليوم هو أمر عادي اندلع بمحض المصادفة، بل يكون صاحب الظن هذا منفصلاً عن الواقع لا يدري ما يدور في المنطقة، فحرب غزة كانت ذات مقدمات متصلة بعمق المواجهة التي يخوضها محور المقاومة مع المشروع الصهيو ـ أميركي. هذا المشروع تحوّل بعد إخفاقه في سورية الى العراق عبر « استراتيجية الإشغال والحرب الطويلة» مع تركيز الصراع على جبهات يستدرج إليها محور المقاومة برمته لاستنزافه خاصة إيران التي لا تزال نظرياً خارج ميدان القتال . لكن محور المقاومة ردّ على ذلك باستراتيجية مضادة تعتمد منطق الهجوم في معرض الدفاع فكانت «استراتيجية الجبهات المتعددة والضغط المؤلم» التي ترجمت بالعمليات العسكرية المميّزة للجيش العربي السوري في شمال حلب وأدت الى تطهير المدينة الصناعية فيها بخاصة، وتدمير أكثر من وكر للإرهابيين على مساحة سورية، وبالعملية العسكرية الصاعقة التي نفذها أنصار الله الحوثيون في اليمن بدخولهم مدينة عمران وتهديد صنعاء، وبعملية أسر المستوطنين الصهاينة وتصدّع السور الأمني الذي بنته «إسرائيل» لحماية المستعمرين في الضفة الغربية، فضلاً عن المناورة الميدانية العراقية التي نجحت في رسم «خط منع النفاذ « في وجه إرهابيي «داعش» ومن بقي من تكتل العدوان على العراق.

إن فشل «إسرائيل» في غزة يعني ببساطة نصراً للمقاومة الفلسطينية بخاصة، ولمحور المقاومة بعامة. نصر لن يكون ثمة، بعد ما حصل، إمكان للتفريط فيه، وهنا تبرز أهمية الإقرار «الإسرائيلي» بالهزيمة التي ستحكم المواجهة والاتصالات مستقبلاً إذ أنها ستفرض نفسها على أكثر من موضوع وعنوان.

فعلى صعيد وقف إطلاق النار الذي حملته المبادرة التي نسبت إعلامياً إلى مصر، لم يكن ممكناً الاستجابة له فلسطينياً، إذ لم يكون مقترناً بما يغيّر الحال الذي كان مفروضاً على غزة قبل العدوان «الإسرائيلي» عليها. ولا يمكن البتّة أن تفرّط المقاومة بنصرها وتعود الى ما كان عليه الأمر كأن شيئاً لم يكن، عبر العودة الى معادلة التهدئة القائمة على منطق «هدوء مقابل هدوء» على خط وقف إطلاق النار، مع استمرار الحصار والتضييق الخانق على غزة، أو العمل الجاري على تصفية القضية، لذا كان الرفض الفلسطيني المقاوم بمثابة تأكيد عامل القوة الذي تتمتع به المقاومة وتطبيق لفعل القوة، ثم تعبير عن تغيّر في المعادلة. رفض يؤكد أن المقاومة المنتصرة القوية لا تقبل بفتات يلقى إليها ولا تقبل بأن ينتزع من يدها انتصار صنعته بدماء شهدائها.

لناحية المشهد العام وموقع المقاومة فيه، حدث تغيير جوهري، فبعد وصف المقاومة بأنها سلوك عبثي لا يمكن أن يؤمن للفلسطينيين شيئاً من أحلامهم وطموحهم، وأن المفاوضات وحدها هي السبيل للحصول على ما ترضى «إسرائيل» بإلقائه إليهم من فتات، نظرة جعلت المسؤول القطري يجرؤ على القول بأن حركة حماس تحولت الى حركة سياسية وغادرت الخنادق والسلاح. بعد ذلك كله حدث التغيير في اتجاهات أربعة:

الأول في اتجاه المقاومة ذاتها التي أثبتت وجودها وفاعليتها وأنها ليست حركة عابرة في تاريخ الشعب الفلسطيني، بل هي متجذرة في كيانه لا يستطيع فرد أو جهة بالغاً ما بلغت سطوته وقوته أن يصادرها أو يلغيها، فمن يحاول ذلك يلغي نفسه وتبقى المقاومة. وأثبتت المقاومة الفلسطينية من غزة عام 2014 أن المقاومة وصلت الى أعلى مستوى وصلته منذ انطلاقتها عام 1965، مستوى فرض نفسه على الجميع وأكد أن من يريد الشرف والعزة واستنقاذ الحقوق يلتحق بها ومن يتخلف عنها يخسر هو وتبقى المقاومة، ومن يتنكر لمحور المقاومة يسقط هو ويبقى المحور عاملاً لأجل فلسطين.

الثاني في اتجاه «إسرائيل»، إذ تأكد مرة أخرى لمن يريد أن يكون منصفاً وواقعياً ويعمل عقله وبصيرته. إن «إسرائيل» ليس قدراً لا يرد، بل يمكن أن يلوي ذراعها أيضاً، وهي في أي حال لا تعيد حقاً إلى صاحبه بإرادتها، بل إن الحقوق تنتزع منها انتزاعاً مصداقاً لنظرية الرئيس عبد الناصر «إن ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة».

الثالث في اتجاه حركة «حماس» إذ ظهر أن الإمرة في الحقيقة هي لرجال الخنادق الذين لم يغادروا خنادقهم، مستمرين في تطوير قدراتهم القتالية باحتضان من محور المقاومة بجميع مكوّناته، أما نزلاء الفنادق ومنظّروهم وشيوخهم الذين تنكروا للمقاومة فهم في تيههم في غرف فنادقهم وموائدها، ولا ينصاع خندق لفندق.

الرابع في اتجاه محور المقاومة إذ له أن يفاخر، وهو في أيام الاحتفالات بنصر تموز 2006 بأن استراتيجيته في المواجهة انتصرت وأضاف الى انتصاراته السابقة نصراً جديداً، مؤكداً صدقية توصيف السيد حسن نصرالله لهذا الزمن بأنه «زمن الانتصارات» وزمن العدالة التي تفرضها قوة الحق المحصّن بالقوة الميدانية، وليس زمن «عدالة الغرب» المعتدي ومحاكمه الدولية الإجرامية، وبهذه القوة يكون المحور وجّه صفعة مؤلمة إلى خصومه ستتردد مفاعيلها في الجبهات الأخرى التي فتحت في سياق «تعدد الجبهات وإيلام العدو».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى