«القاعدة» و فروعها… خطأ في التصويب وفشل في التبليغ

فؤاد عيتاني

بات المواطن اللبناني وأهل الإقليم في المشرق العربي عامة ينتظرون يومياً بمَ سيطلّ الإرهاب عليهم! فبعد الحوادث المتنقلة من البقاع الى بيروت، وبالعكس، وبعد إصرار البعض في الشمال على رفع الرايات السود المساندة لفرق الإرهاب، وتصاعد لهجة التهديدات من قادة «النصرة» و«القاعدة» و«داعش»، وتكرار بلاغات التنبيهات من أهل الأمن والسياسة، أضحى القلق والخوف جزءاً من العادات اللبنانية كغيرها من التي يمارسها أهل لبنان والمشرق الكبير… فيقول أحدهم على سبيل المثال وهو يعلل الخطرالداهم ويخفف منه لحظة مهاجمته أحد فروع «القاعدة» كمين «الماسورة» الذي قضى خلاله في سيناء 16 من الضباط والجنود المصريين، ويصرح المسؤولون المصريون بعد ذلك بأن القضاء على فلول الإرهاب في هذه المنطقة قد يستدعي شهوراً أخرى، فحين يتكرر رفع الرايات السود منذ بداية «الثورات» وترفع صور زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن مرات عديدة، وتكون لدينا ثلاث جماعات تتسمى باسم «أنصار الشريعة» تتبنى السلفية الجهادية وفكر «القاعدة» وتنشط في عدد من الدول، يغدو السؤال عن فرص «القاعدة» في دول «الربيع العربي» حاملاً بلا شك شرعية أعمق وأكبر من مجرد التنافسية أو الاستقطاب السياسي السائد في دول «الربيع العربي» بين الصعود الإسلامي أو الشتات المدني!

أنصار الشريعة وزعماؤها

في الدراسة التي كتبها الخبير في الحركات الإسلامية هاني نسيرة، يتزعم «أنصار الشريعة» في مصر الشيخ الجهادي السابق أحمد عشوش، أحد أبرز الذين رفضوا مراجعات الدكتور فضل منظر «القاعدة» وجماعات الجهاد، والذي أفتى مؤخراً في 17 أيلول 2013 بقتل جميع ممثلي الفيلم المسيء إلى النبي محمد ص كما أخرج عدداً من الكتب والرسائل في نقد الممارسة «الإخوانية» والسلفية بعد الثورة في كتيب حمل عنوان «الحصاد المر الإخوان المسلمون والسلفيون بعد الثورة» متماهياً مع كتاب زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري «الحصاد المر … الإخوان المسلمون في سبعين عاماً» وإن استخدم المقولات والحجج والإسنادات نفسها، وإن تميز كتاب الظواهري باتساع مراجعه وفضاءاته وحجمه، حتى عاد فيه إلى المؤرخ اليساري الدكتور رفعت السعيد وسلسلة انتقاداته لجماعة «الإخوان المسلمين» أكثر من مرة، بينما يتزعمها في تونس سيف الله بن حسن المشهور بالشيخ أبي عياض الذي حوصر في جامع الفتح في تونس بعد تداعيات الفيلم المسيء إلى النبي محمد ص ، في 17 أيلول الفائت أيضاً!

رغم العديد من الحوادث الليبية التي تكرّرت فيها رايات أنصار الشريعة، بدءاً من مهاجمة السفارة التونسية في ليبيا، إلى ردّ فعل على مواقف الحكومة التونسية من نظرائهم في تونس، إلى الهجوم الأخير على القنصلية الأميركية في بنغازي، فقتل السفير الأميركي بطريقة بشعة في 11 أيلول الفائت وما أعلنته «القاعدة» من أن هذا القتل كان انتقاما لمقتل زعيم «القاعدة» أبي يحيي الليبي الذي قتل في حزيران الفائت، ورغم البيانات المتناقضة حول تبني العملية وعدم تبنيها من قبل «أنصار الشريعة» الليبية إلاّ أنّ وجودها ومرجعيتها السلفية الجهادية «القاعدية» حاضرة وينبغي كذلك أن تكون بعيدة عن المزايدة والتنافسية السياسية.

لا شك في أن التظاهرات التي حدثت في الدول الثلاث وغيرها كانت تتقد من سخونة العواطف الدينية الإسلامية والغضب من الإساءة إلى نبي الإسلام عبر شباب متدين وغير مؤدلج يمثل أرضاً خصبة للتجنيد الجهادي، ووجد ضالته في تأييد أكثر الاتجاهات أو الشخصيات الدينية تصلباً في انتخابات الرئاسة المصرية الماضية مثلاً، قبل استبعاده، وذاك ما تكرر في مرات سابقة مع حوادث مشابهة كان آخرها ما حدث في أزمة الرسوم الكاريكاتورية سنة 2004. لكن ما حدث في هذه التظاهرات من رفع صور زعيم «القاعدة» برفقة راياتها السود وهتافاتها وتنظيمها في مناخ سياسي واجتماعي لا تزال دولة ما بعد الثورات مأزومة تسترد عافيتها وهيبتها، وهذه المقدمات أمامنا اليوم في طرابلس وشمال لبنان.

من أزمة التنظيم إلى نشاط الحالة

حوادث عديدة عام 2011 جاز معها توقع انهيار تنظيم «القاعدة» وشبكته وفروعه، في مقدمها «الثورات العربية» التي أسقطت سلمياً الأنظمة في تونس ومصر، وفي ليبيا التي قتل حاكمها معمر القذافي في 20 تشرين الأول من العام نفسه وتنحى علي عبد الله صالح عن الحكم في 23 كانون الثاني 2012. تتعرض سورية الكيان لأبشع حرب دولية لتفتيها باسم الإسلام، وها هو العراق يتدحرج الى المسار نفسه.

واجهت «القاعدة» هذا التحدي النظري بسقوط الأنظمة أمام الثورات المدنية الديمقراطية اللاعنفية، عبر الالتفاف عليه، إذ أثبت فشل خيارها بالانقلاب والاستنزاف المسلح الذي استخدمته التنظيمات الجهادية المحلية في مواجهتها، ثم اعتمدته «القاعدة» والجهادية السلفية عامة».

ظن البعض أن هذا التحدي النظري والفكري لـ«القاعدة» قد يكون الضربة القاضية القاصمة على أساس فكرها الانقلاب، خاصة مع توالي الضربات القاتلة لعدد من أبرز رموز قادتها ومنظريها، وكان في مقدمها زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن في 2 أيار 2012 وتلاه عطية الله الليبي في 2011 ثم مقتل منظرها الشرعي وقائد العمليات في التنظيم عطية الله الليبي المصراتي في 22 آب 2011، ثم المنظر اليمني أنور العولقي في 1 تشرين الأول 2011، كما تأكدت وفاة أبي يحيي الليبي، الذي رجحت الولايات المتحدة مقتله في حزيران 2012، بعدما أكدها أيمن الظواهري في 11 أيلول 2012، وهو التاريخ نفسه الذي أكدت فيه الحكومة اليمنية مقتل سعيد الشهري نائب زعيم «القاعدة» في جزيرة العرب، وهذا ما لا يمكن الجزم فيه حتى الآن. كما قتل «أمير الصحراء» في تنظيم «القاعدة» في المغرب العربي نبيل الصحراوي المعروف بنبيل الأوراسي.

هذه أزمة التنظيم في «القاعدة» وقيادتها المركزية، لكن ما حمله «الربيع العربي» من وعود كبيرة بيقظة أمة لا تعيش في العالم وحدها، مع فراغات إيدولوجية وأزمات هوية وعدم تحديد لمفهوم الشرعية، هل هو سياسية أو دينية، وما رافقه من التفوّق التنظيمي للقوى الإسلامية عامة مع خطاب لم يخل أثناء التنافسية السياسية والانتخابية من بعض وجوه الجهادية والسلفية الجهادية مثل نماذج حازم أبو اسماعيل وبعض القنوات الدينية وغزوة الصناديق ورفض المواطنة الكاملة لغير المسلمين بل ورفض الديمقراطية من قبل بعض الذين اخترقوا وفازوا في مضمارها من قبل الأحزاب السلفية. هذا الخطاب كله يمثل أسساً متماهية مع خطاب «القاعدة». لكن «القاعدة» واضحة فيه، بينما الآخرون يستخدمونه تكتيكياً أو مرحلياً فحسب.

من جانب آخر، لم تلق «القاعدة» – وتيارات الإسلاميين- بالاً للتحدي النظري الذي طرحته الثورات المدنية الديمقراطية السلمية، بل رأت في انهيار نماذج الدولة الوطنية المشوهة قبل الثورات، نتيجة طبيعية لاستنزافها بالهجمات والنضالات الإسلامية وحدها، كذلك الاستثمار في توجهات الأغلبيات المتدينة وغير المسيّسة، المتعاطفة مع الخطاب الديني فضلاً عن الفشل التنظيمي الذريع للقوى المدنية في المرحلة الأولى من «الربيع العربي».

من نافلة القول التأكيد على هذا التجاهل لمدنية هذه الاحتجاجات والثورات من قبل قادة «القاعدة» أو منظريها، فرغم ما أبداه زعيم التنظيم الراحل أسامة بن لادن من إعجابه بهذه الثورات، قبل مقتله في 2 أيار من العام نفسه، ودعوته أنصاره إلى عدم التدخل في مساراتها كي لا تصبح استخدام فزاعتها من قبل الأنظمة أو القوى الدولية الداعمة لهذه الثورات، كان يلح دوماً على ضرورة أسلمتها كخيار مضمون للجماهير المسلمة، وهذا ما يكاد يتحوّل «الربيع العربي» معه الآن مشروعاً أيديولوجياً لتنظيمات دينية معينة أكثر منه مشروعاً سياسياً لدى هؤلاء.

ففي رسالة بن لادن الى عطية الله الليبي الذي قتل في 11 آب 2012، وكتبها قبل وفاته بأيام- وهي الوثيقة رقم 10 ضمن الوثائق التي أفرج عنها بعد مقتله- بتاريخ 26 نيسان 2011 وصف الثورات العربية بالحدث العظيم وبأنها «ثورة الأمة ضد الطغاة»، وبأن «الأمة لم تشهد تحركاً بهذا الحجم منذ قرون»، ويوصي مسؤول العمليات في تنظيمه بألاّ يدخل الجهاديون في مواجهات مع الإسلاميين الذين يتوقع بن لادن أن يسيطروا على المشهد السياسي عربياً، ويرى أن من الضروري أن يتأنوا وأن يعتنوا بدور التوجيه عبر الرسائل الإعلامية.

كما وجّه الظواهري في رسائله – عشرة أجزاء – إلى أهل مصر، نصائح للقوى الإسلامية الصاعدة منبّهاً إياهم إلى أن يحافظوا إسلامية الثورة، وأدّت إليها جهود «القاعدة» عبر إجهاد تلك الأنظمة وكذلك حليفتها الولايات المتحدة، والحذر من العلمانيين حلفاء الغرب، وخص بالذكر أسماء مثل الدكتور محمد البرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية سابقاً، وذكر في رثائه لبن لادن في 9 حزيران، التي ينذرها بالويلات، إذ أنها الآن أمام أمة منتفضة لن ترحم من يواجهها! فتحوّل الأمر من الإشكال النظري وهزيمة فكرة الانقلاب المسلح لـ«القاعدة» إلى اعتبار الثورات انتصاراً لـ«القاعدة» وقوى الإسلاميين عامة! وهكذا فعل عطية الله الليبي المصراتي قبل مقتله في آب من العام نفسه، في حديثه للثورة الليبية وهذا ما فعله أيضاً أنور العولقي قبل مقتله في 1 تشرين الأول من العام نفسه في حديثه إلى «الثورة» اليمنية!

لكن ما تعرّضت له «القاعدة» من ضربات متتالية عقب «الثورات العربية»، خاصة مقتل زعيمها في الثاني من أيار 2011 كانت ضربات تلاحقت لـ«القاعدة» تنظيماً وعلى شبكة فروع تنظيمية في العالم بعد مقتل زعيمها في عدد من بلدان العالم، لكنها لا تزال حالة نشيطة، وهذ ما تأكد في عملية محمد مراح في فرنسا في 12 آذار 2012، أو ما شاهدناه في مقتل السفير الأميركي يوم 11 أيلول في ليبيا إثر ردود الفعل الشعبية والاحتجاجية على فيلم مسيء إلى النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- وهو ما أعلنت «القاعدة» أنها قامت به ثأراً لمقتل أحد قيادييها أبي يحي لليبي، أو رفع الرايات السوداء لـ«القاعدة» وصور الراحل أسامة بن لادن في الاحتجاجات ضد السفارة الأميركية في القاهرة وتونس، وفي تظاهرات عديدة في مختلف بلدان العالم العربي، ما يجعلنا نجزم بأن «القاعدة» حالة تنشط بقوة مع الانفلات الأمني وصعود الإسلاميين وسياسات الهوية ومناخات الانفلات الأمني وضعف هياكل الدولة، مثلما هي حال لبنان اليوم.

قد يكون ثمة تراجع ملحوظ على مستوى القيادة المركزية لـ«القاعدة» المحاصرة في جبال باكستان وأفغانستان، وعلى مستوى بعض الفروع وليس كلّها، ما أثر في حجم العمليات التي تراجعت على مستوى العالم إلى 10283 عملية في العام الفائت، بعدما كانت 11641 في 2010، بحسب المركز الوطني لمكافحة الإرهاب الأميركي. لكنّ ثمة تقدماً على مستوى بعضها، وخاصة في منطقتي الساحل الأفريقي والقرن الأفريقي، عبر جماعات التحقت بها في السنتين الأخيرتين مثل «بوكو حرام» النيجيرية التي تنشط في القرن الأفريقي وحركة «شباب المجاهدين» الصومالية وجماعة «أنصار الله» و«كتيبة الملثمين» اللتين سيطرتا قبل بضعة أشهر على الشمال المالي كله، حين نجحت «القاعدة» مثلاً في مالي في السيطرة على تومبكتو أوائل تموز 2012.

كما أن ثمة حركات أخرى عديدة مرتبطة بها لا تزال تمارس نشاطها مثل «طالبان باكستان» التي نفذت ما لا يقل عن عشرين عملية نوعية في باكستان انتقاماً لمقتل زعيم «القاعدة» حتى الآن، كما أن هناك حركة «لشكر طيبة» الكشميرية المرتبطة كذلك بها، فضلا عن بعض التنظيمات التي لا تزال ناشطة أو عادت إلى نشاطها بقوة في العالم العربي مثل تنظيم «القاعدة» الناشط في العراق في ظل السجال الطائفي الساخن، ومجموعات السلفية الجهادية في سيناء وليبيا وغيرها التي يمثل مناخ الحرية غير المضبوطة والفراغ الأيدولوجي السائد في دول ما بعد الثورات العربية مساحات مفتوحة لنشاطاتها مع أقرباء أيديولوجيين في سدة الحكم.

لذا نرى أن الجهاديين المحتملين وبعض الجماعات المنظمة مثل «أنصار الشريعة» بفروعها الثلاثة، ونجاحات «القاعدة» في بعض المناطق، فضلاً عن زخم الصعود الإسلامي، الذي لم يترافق مع تطورات أو مراجعات عميقة على مستوى الخطاب أو الممارسة، واستمرار أزمة الهوية المستمرة التي تجلت في تداعيات أزمة الفيلم المسيء أو الرسوم المسيئة الجديدة.. هذه الفجوات الثقافية السياسية – الاجتماعية والقانونية كلّها تمثل فضاءات فرص جديدة لـ«القاعدة» أو التطرف الديني عامة، وليس ذلك فزعاً من حدث التغيير السياسي والديمقراطي، بل هو كشف عن المهمة التي تقع على عاتق القوى المدنية والإسلامية المعتدلة لرأب الصدع والتوافق لأجل النهضة والبناء من دون شعبوية أو استحواذ لن يكون في مصلحة أحد إلاّ الشموليين إجمالاً، أنظمةً سياسيةً أو أصوليةً دينيةً! تحاول أن تمدّ لنفسها بيئة حاضنة في شمال لبنان على غرار ما ذكر عن غيرها في البلدان، إلاّ أن البيئة اللبنانية عامة بطبيعتها قادرة على ردم بقعة الشمال في أقرب تحوّل سياسي مقبل، بعد سكون عاصفة «الشرق الأوسط الجديد».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى