الاستناد إلى الموروث في الأدب المقاوم

سامر منصور

وجدت في هذا الديوان قصائدَ كلّ نبضها فوق السطور، وقصائدَ أخرى نبض دلالاتها فوق السطور وبين السطور. وقد جسّد الشاعر محمد طارق الخضراء في معظم قصائده الملحمة الفلسطينية والتآمر الذي طاول محور المقاومة برمّته وبالأخص سورية الأبية.

نادراً ما نجد الشعر الفصيح والشعر بالعربية المحكيّة وكلمات الأغاني بين دفّتَي ديوانٍ واحد. ومن النادر أيضاً أن نجد مواضيع متنوّعة إلى هذه الدرجة التي سيلاحظها قارئ هذا الديوان، وهذا ما جعلني أفكّر بتفسير لذلك. فتذكرت ما قاله أوكتافيو باث: «الشعر والفكر بالنسبة إلّي وجهان لعملة واحدة… الشعر، هو الكلمة الأسمى للكائن وهو فعلٌ معرفيٌّ بامتياز».

لقد تعمد الشاعر مخاطبة كافة طبقات المجتمع، فكانت النصوص «العاميّة» للبسطاء الذين لا دراية لهم بما جَزُلَ من اللغة العربية. أما فصيح القول واسع الدلالة فللفئات المثقفة. وهذا الحرص على التواصل مع الجميع ذكّرني بما يقوله هيدجر: «التجربة الشعرية تضيء بصورة ممتازة وجود الحقيقة الإنسانية». والتي أراد الشاعر الخضراء أن يوصلها إلى أكبر عددٍ ممكن من شرائح المجتمع.

شكّل الديوان بانوراما ضمت الكثير من البيان العربي وجماليات اللغة من كنايات واستعارات وصولاً إلى تعدّد المذاهب الأدبية المُتّبعة الرومنسي، الكلاسيكي، الرمزي . أي أنّ هناك مذاهب ما قبل الحداثة وما هو حداثوي. ولما كانت المذاهب الأدبية هي أساليب إيصال الفكرة من خلال الخروج عن الأنماط السابقة في طريقة بناء النصّ، فالأجدى هو الأحدث كأيّ منتج بشري. ولما كنّا كعرب نعاني الأمرّين، فالأجمل هو الأجدى بالنسبة إلى المأزوم والمنكوب. فلماذا لم يدّخر الشاعر مذهباً من المذاهب السابق ذكرها؟ أحالني هذا السؤال إلى مقولة غسان كنفاني: «ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة. إن الانحياز الفني الحقيقي، هو كيف يستطيع الإنسان أن يقول الشيء العميق ببساطة».

ثم أحالني السؤال إلى مقولة أوكتافيو باث: «الحداثة وهم، والسعي نحوها هو نزول إلى المصادر الأولى». وقد قادني ذلك إلى العصور القديمة. الحداثة ليست خارجنا إنها في داخلنا.

ويضاف إلى التنوّع السابق، التنوّع في الجرس الموسيقي للّغة، فكثيرة هي القوافي التي استخدمها وكلّها جاءت مناسبة لموضوع القصيد. وقد بدا ميل الشاعر إلى البحرين الكامل والبسيط أكثر من سواهما من بحور الشعر. وقد جاءت القصائد كرحلة جغرافية تاريخية «زمكانية» اضطلعت بوظيفة تنويرية متكاملة حيال ما كان وما يكون الآن على أرض فلسطين. وضمّت أغراضاً شعرية عدّة كالتذكير بتضحيات شعبنا الباسل وتضحيات أم المقاومة سورية، وتوثيقها في نطاق فنّ الشعر. وتجسيد معاناة الطفولة واستنهاض الهِمَم وبثّ الأمل. وقد أثبت الشاعر الخضراء الذي دخل العقد الثامن من العمر أن الإبداع الفلسطيني والريادة لا يعرفان حدوداً.

وفي قصيدته «بين الصدى والحكايا أحجية»، عمد الشاعر إلى فتح الآفاق أمام مخيّلة القارئ وعدم إغلاق بنية القصيدة الدلالية على اتجاه واحد. إذ إننا نلمس في النصّ ما يقوله جاك دريدا: «لا تتشكّل الدلالة إلا في فجوة الإرجاء في اللااستمرارية والإخفاء وفي الانحراف وفي مخزن ما لا يظهر».

ورسم الشاعر مشهدية مرنة فيها مجال لحراك مخيلة المتلقّي فأحال القصيدة إلى محطة تأملية عبر تفعيل آليات عمل العقل أي استرجاع وإسقاط واستدلال واستقراء واستشراف… إلخ. وهنا تستطيع رسالة الأديب الرسوخ في الوجدان والوعي الجمعي.

يقول: عادت إلينا شهرزاد

ولم يمت من بين شفتيها الكلام

عادت حكايات الأمير مع الفقير

وقرية الأشباح والأرواح

في حلك الظلام

وحزينة

فوق النجوم السابحات

تهيم في همس القوافل

والبلابل والشذا.

نلاحظ وجود المُعادل الموضوعي لكثرة المتخيَّل في سياق النص أي أنّ النصّ الأدبي لا ينطلق من الواقع إلى الخيال في رحلة مجانية، بل ينطلق من الواقع إلى الخيال بُغية تحقيق واقع أفضل من خلال رفد الوعي الجمعي. وهذا ما ذهب إليه الشاعر في نصّه حيث كان الفضاء المشهدي واسعاً وتعدّدت المضامين والدلالات، فقام بربط الموروث بالحاضر عبر التماثل:

شهريار هو الصهيونية العالمية وجرائمها.

شهرزاد هي فلسطين.

الحَكايا تعني حكايات فلسطين ومحور المقاومة في الإباء والصمود.

السندباد ربّان السفينة هو قائد المقاومة الرئيس بشار الأسد.

فبكى الكلام من الكلامِ

وسندباد… على السفينة

في عباب البحر

بين الموج والإعصار

يمسك بالرماح وبالرياح

حين الصواري… والضواري

أنشبت في الريح أحقاباً

وأنياباً بمأدبة الجراح.

وشهريار ـ في الموروث ـ حقودٌ مُتجبّر يمارس القتل في حقّ البريئات. وشهرزاد هي ضحية بريئة لجنون أحقاد الطاغية تدرأ عن نفسها الموت عبر حكاياتها. نعم حكايات المقاومة والبطولة والنضال التي تتلوها فلسطين على أسماع الأمم، وتعلّمها كيف يكون الكفاح، ما يجعلها تتفوّق على شهرزاد التي استعانت بالخيال كي تحيا ألف ليلة وليلة. ففلسطين حققت بصمودها وبسالتها المُحال، فهي حيّة خالدة.

كاتب فلسطينيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى