المستجدّات في معالم التحوّلات الاستراتيجية في العالم

زياد حافظ

حصلت تطوّرات عدّة في العالم خلال الأسابيع القليلة الماضية تؤكّد مرّة أخرى أن ميزان القوّة تغيّر بشكل سلبي تجاه الغرب وبشكل إيجابي واضح لقوى صاعدة خارج الإطار الغربي.

نبدأ أولّا باللقاء الذي حصل مؤخراً في باريس بين الرئيس الصيني زي جينبينغ والمستشارة الألمانية انجيلا مركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس اللجنة الأوروبية جان كلود يونكر. أهمية اللقاء تكمن في الأساس في قيامه خاصة بعد توصيف الاتحاد الأوروبي بأن الصين هي المنافس النظامي للاتحاد الأوروبي، أي بمعنى أن المنافسة ستكون باقية لفترة طويلة من الزمن. وتجلّى ذلك عند الأوروبيين من خلال مراقبتهم لجهود الصين في التنافس في ميدان التكنولوجيا بينما في السابق كانت الأخيرة منكبّة على التنافس في الصناعات التحويلية التقليدية. والخشية الأوروبية تكمن في إمكانية تقدّم الصين فيما يُسمّى بالجيل الخامس في التكنولوجيا 5G التي تشمل الذكاء الاصطناعي الذي سيدخل في مختلف الآليات التي تُصنّع وفي الخدمات بما فيها تلك التي تتعلٌّق بالاستهلاك العام. ويشير كبير مراسلي صحيفة «آسيا تايمز» بيبي اسكوبار أن النمو الاقتصادي في الصين بعد الأزمة المالية التي عصفت بالعالم سنة 2008 كان كيلي: 139 بالمئة في الصين، 96 بالمئة في الهند، 34 بالمئة في الولايات المتحدة بينما في الاتحاد الأوروبي كان المعدّل سلبياً بنسبة 2 بالمئة بسبب اتباع الاتحاد الأوروبي إملاءات الولايات المتحدة في سياسات التقشّف المدمّرة للنمو الاقتصادي بل للتنمية بكافة أشكالها.

هذه حقائق يصعب تجاهلها عند الأوروبيين، وبالتالي أصبحت القيادات الأوروبية تتطلّع إلى الخروج من تحت عباءة الولايات المتحدة ليس فقط على الصعيد العسكري والسياسي بل أيضاً على الصعيد الاقتصادي. والفضيحة المأسوية لطائرة البوينغ 737 ماكس أدّت إلى دفع حظوظ شركة ايرباس الأوروبية لعقد صفقة بقيمة 30 مليار دولار مع الصين تشمل شراء 300 طائرة ايرباس، وذلك على حساب شركة بوينغ! فمصائب قوم عند قوم فوائد! غير أن تلك «المصيبة» لشركة بوينغ كانت مأسوية للركاب الذين قضوا بسبب عطل في أحد البرامج المحرّكة للطائرة الجديدة والتي لم تخضع للتدقيق من قبل السلطات الاتحادية في الولايات المتحدة والتي لم تحصل على براءة تأهيل للعمل! هنا درس في نتائج الفساد القائم في الولايات المتحدة حيث الخسارة البشرية تفوق الثلاثين مليار قيمة الصفقة بل الضربة القاضية لسمعة شركة بوينغ!

ومن جهة أخرى بات واضحاً أن الفرنسيين لن يوافقوا على مقاطعة الشركة الصينية هواوي العملاقة التي تحاول واشنطن وضعها على قائمة الشركات التي تجب مقاطعتها. لقد اختارت الشركة باريس لإطلاق النسخة الجديدة المثيرة الهواتف المحمولة الذكية المعروفة بسلسلة ب 30 والتي قد تحتوي على ملامح التكنولوجيا الجديدة 5 ج. القرار ليس بريئاً حيث تعتبر الصين برلين أهم من باريس، لكنها تعتقد بأن باريس وروما تستطيعان لعب دور هام في المعادلات الاقتصادية.

لذلك اعتبرت المستشارة الألمانية أن مشروع الحزام الواحد/الطريق الواحد مشروع جدير بالدراسة فهو مشروع سيبقى لفترة طويلة على حدّ قولها. ذلك الاعتراف جاء بعد الموافقة المبدئية لإيطاليا على الانضمام إلى طريق الحرير الجديد ما جعل الصين تصل إلى وسط أوروبا وتعزّز وجودها في البحر المتوسّط، وهذا ما أغضب الولايات المتحدة غضباً شديداً. وجوهر المحادثات بين الرئيس الصيني وزملائه الأوروبيين كان التركيز على تعدّدية الأطراف في التعامل مقابل أحادية التعامل التي تريد فرضها الولايات المتحدة على الحلفاء والشركاء. ومن ضمن النقاش الذي دار بين الرئيس الصيني والمستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي تأكيد الصين على الانفتاح. كما أكّد أن الصين أنجزت خلال 48 سنة ما أنجزته أوروبا طيلة الثورة الصناعية! لكن الرئيس الفرنسي ما زال متردّداً بالالتحاق بالشراكة مع الصين كما فعل زميله الإيطالي وأن المستشارة الألمانية أكّدت حرصها على ضرورة إشراك الولايات المتحدة في التشابك بين الكتلة الأوراسية وأوروبا. والرئيس الفرنسي ماكرون يحثّ المستشارة الألمانية على الموافقة على تشكيل دولة اتحادية أوروبية عابرة لسيادة الدول المكوّنة تستطيع أن تقف في وجه التمدّد الصيني والأميركي على حد سواء. ما هو الفرق بين ذلك المشروع والمشروع القومي النهضوي العربي؟

فطريق الحرير الجديدة تحمل في طيّاتها منافع كبيرة لأوروبا. فرجال الأعمال الأوروبيين يعلمون أن ذلك الطريق سيسرّع في التكامل الأوراسي وأن مصالح الوحدة الاقتصادية الأوراسية تتكامل مع منظومة شانغهاي. وبالتالي لا يريد رجال الاعمال في أوروبا تحمّل وزر حرب باردة جديدة تطلقها الولايات المتحدة تجاه كل من روسيا والصين. أوروبا تقوم بتحويل تدريجي لأولوياتها السياسية والاقتصادية نحو الشرق بما فيه «المنافس النظامي»، أي الصين.

المستجدّ الثاني هو خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أواخر شهر شباط/فبراير لمجلس الأمة الذي يضم كلاً من الدوما مجلس النوّاب الروسي ، مجلس الوزراء، مجلس حكّام الولايات، هيئة الأركان وسائر مقوّمات الدولة الروسية إضافة لكوكبة من رجال الأعمال والإعلاميين. هذا الخطاب شكّل صدمة مرّة أخرى! للغرب حيث كشف الرئيس الروسي التقدّم الكبير في المشهد الاقتصادي الروسي. ويشير المحلّل الروسي ديمتري اورلوف إلى أن الرئيس الروسي أعلن أن حجم الاحتياط النقدي بالعملة الأجنبية كافٍ لتغطية الدين العام الخارجي سواء على صعيد القطاع العام أو القطاع الخاص. كما أن الصناعات غير المرتبطة بالطاقة النفط والغاز تزدهر في صادراتها ما أدّى إلى تحسّن ملموس في ميزان التجاري. لكن أهم من ذلك هو تبخّر العجز المالي ما يعني أن روسيا لم تعد تحت ضغط العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي. استقلالية روسيا الاقتصادية من التبعية للغرب تطوّرت بشكل كبير يؤكّد صعود روسيا وتراجع الغرب في الصراع القائم بينهما.

هذا الخطاب الذي يعدّد الإنجازات الاقتصادية جدير بالتوقّف عنده. من ضمن المفاجآت التي كشفها الرئيس الروسي وتعني تراكم رأس مال كافٍ للصرف على مشاريع داخلية يستفيد منها المواطن الروسي. ومن الشعارات الجذّابة التي أطلقها «ضرائب أقلّ وأطفال أكثر»! أي بمعنى آخر إزالة وصمة الفقر التي يصف الغرب «النظام الروسي». كما انه وعد إيجاد خطوط الإنترنت السريع في كل مدرسة، والضمان الصحّي الكامل للجميع متى لبنان وسائر الأقطار العربية؟ بما فيها أحدث المشافي المختصة بمعالجة السرطان. هذه من بعض المشاريع التي باشرت روسيا بتنفيذها إضافة إلى تحسين ملموس في البنى التحتية كالخط السريع للسيارات بين موسكو وسان بطرسبورغ. فكل ذلك سيتحقق بسبب الوفرة المالية الذاتية البعيدة عن الابتزاز الغربي. فسياسة العقوبات الأميركية والأوروبية هزمتها روسيا وها هي روسيا تجنح إلى المزيد من الانفتاح عبر الاستثمار في القطاع السياحي، وذلك عبر تسهيل الحصول على التأشيرات الإلكترونية للقدوم إلى روسيا.

نتذكر أن في الستينيات من القرن الماضي كان الاتحاد السوفياتي يشكو من نقص في الحبوب والمواد الغذائية. تبيّن اليوم أن روسيا حقّقت نسبة كبيرة من الاكتفاء الذاتي في المواد الغذائية وفي المواد التي تستهلك في تربية المواشي. ويفتخر الرئيس الروسي بأن بلاده هي الوحيدة من بين الدول الزراعية الكبرى التي لا تستعمل المواد التي تغيّر في التركيبة الجينية للمواد الغذائية التي تسود دول العالم بشكل عام والغرب بشكل خاص والتي هي أقرب للسموم القاتلة.

ويشير الأستاذ غالب قنديل إلى أن تلك التطوّرات «تمّت في ظل وثبة موازية واستراتيجية في صناعة السلاح الروسي» الذي كشف عنه سابقاً الرئيس الروسي. لم يخلُ خطاب الرئيس الروسي هذه السنة من بعض الإشارات المثيرة إلى التطوّرات في الصناعات العسكرية. فما كشف عنه في خطابه السابق سنة 2018 استُكمل بالكشف عن شبكة صواريخ بالغة أضعاف سرعة الصوت والمعروفة بمنظومة «زركون». رغم كل ذلك أعرب عن رغبة روسيا بتطبيع العلاقة مع الاتحاد الأوروبي الذي وصفه بالمعادي. لكن المفاجأة كانت في الكلام البالغ القسوة تجاه الولايات المتحدة حيث اتهمها بسوء النيّة وسوء الأمانة. كما استعمل عبارة روسية تصعب ترجمتها، ولكنها توحي أن الكلام الصادر عن الولايات المتحدة والتابعين لها يشبه صوت الخنازير، أي أن الرئيس الروسي يعتبر الأميركيين خنازير! وذلك وفقاً لترجمة ديمتري أورلوف.

المستجدّ الثالث أوجدته الهند، العضو في مجموعة البريكس. أعلنت الحكومة الهندية عن نجاح تجربتها في تدمير في الفضاء لأقمار صناعية هالكة ما أثار قلق وغضب الولايات المتحدة التي كانت تعتبر عسكرة الفضاء امتيازاً حصرياً لها. أي بمعنى آخر، فإن دولة كالهند تستطيع متى تشاء تدمير الأقمار الاصطناعية للمواصلات العائدة لخصومها وأعدائها. وأهمية ذلك المستجد تكمن في الواقع المتردّي للأقمار الاصطناعية الأميركية للمواصلات الذي أشار إليه تقرير مركز الدراسات الأميركية الذي يستند إلى تقرير حول التسابق في التسلّح في الفضاء أصدره البنتاغون عام 2017 ونشرته صحيفة «واشنطن تايمز». كما أن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية نشر دراسة في 4 نيسان/ابريل حول المخاطر في الفضاء لعام 2019 ركّز فيها على التطوّرات في كل من الصين وروسيا والهند وكوريا الشمالية. كل ذلك يوكّد أن دولاً في آسيا أصبحت تنافس على الأقل من الندّ إلى الند الولايات المتحدة في السلاح المتطور التقليدي وحتى في السلاح الفضائي، هذا إن لم تكن في المقدّمة قبل الولايات المتحدة. والتداعيات الجيوسياسية واضحة حيث أصبح استمرار تواجد الولايات المتحدة في آسيا مسألة فيها نظر.

كاتب وباحث اقتصادي وسياسيّ والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي – نيسان 2019

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى