قراءة تحليليّة في رواية «صابر» للروائيّ والسينمائيّ سليم دبّور 2/2

سمير الجندي

أثار الكاتب قضايا عديدة ومهمة جداً أذكر منها: قضية العمالة، وقضية العمل في المستوطنات، والإسقاط الأمني للفتيات والشبان، والتحقيق في الأقبية الصهيونية، والفقر في المخيمات، والتماسك الاجتماعي، والواسطة، والبطالة، وغلاء المهور، والإشاعات، وعلاقة اليهود بالفلسطينيين قبل الاحتلال، وسرقة جثث الشهداء وسرقة الأعضاء منها مثلما فعلوا مع «دلال»، وقضية التفجيرات العمل الاستشهادي والآراء المختلفة حولها، وقضية الجرحى المقعدين مثلما حدث مع الطفل «محمد»، وهدم بيوت المعتقلين، وأمور كثيرة ومهمة جداً سيلاحظها القارئ لدى قراءة الرواية.

حضور المرأة الفلسطينية قويّ ومميّز في الرواية إذ كانت إلى جانب الرجل في جميع محطات الصراع، ونالت نصيبها من المعاناة بفقدان أحد أبنائها أو اعتقال ابنها أو زوجها، أو هدم منزلها أمام عينيها أو تزويد الجيران الخبز وقت حظر التجوّل، حتى أنها فقدت حياتها ورأينا كيف استشهدت «دلال» أمام نقطة التفتيش بدم بارد من دون مراعاة الظروف الإنسانية التي كانت تمر بها، وحاجتها الملحة إلى بلوغ المستشفى للولادة، ورغم جميع الحوادث الموجعة تستمر الإرادة والإصرار على التحدي حتى نيل الحرية.

لو تعمقنا قليلاً في بعض حوادث الرواية لتوصلنا إلى تحليلات عميقة، مثلاً: هل «صابر» فعلاً مجنون لأنه لم يدفن جثة العجوز ووضع ابنه في قفص؟ إلامَ يرمز استحضار الروائي لشخصية «آدم» من خلال الحلم؟ لِمَ يعيش العجوز في خيمة؟ لِمَ مات العجوز بعد توقيع اتفاقية أوسلو؟ لِمَ أطلقت «دلال» على ابنها اسم «صابر»؟ وأمور كثيرة طرحها الكاتب تستحق الوقوف أمامها والتفكير بها عميقاً. أرى أن «صابر» ليس مجنوناً بل أعقل العقلاء: « تمخَّض الألم في قلبي، فأنجب جنوناً! يا ناس، أنا لست بمجنون، أنا أعقل من أعقلكم، لكن ما أصابني جنّن الجنون. يا ناس، أعيدوا لي صابراً، أعيدوا لي دلال، أعيدوا لي العجوز، أعيدوا لي كل ما فقدت وأعدكم بأن أحارب الجنون. يا ناس، لا تقطعوا العرق النابض، لا تغتالوا حلمي المبعثر، لا تسخروا من وضعي المدمّر، الموت للصدمات. الموت للحقن! الموت لكل من اتهمني بالجنون». فهو لم يدفن العجوز لأن عقله لم يعد قادراً على التفكير، بل لأن العجوز يرمز إلى الضمير، و«صابر» يدرك ذلك جيداً، كما أن موته بعد توقيع اتفاقية أوسلو التي يرفضها العجوز يؤكد ذلك. كان العجوز على ثقة من أن أوسلو هي الحقنة التي ستجهض الانتفاضة وبالتالي ستنقل الفلسطيني إلى مرحلة أكثر قسوة، من وجع إلى وجع أشدّ مرارة. موت الضمير جعل «صابر» يعتقد حدوث الأسوأ، وهنا ازداد خوفه من المستقبل المجهول فوضع ابنه في قفص، هو يدرك أن القفص لن يحمي ابنه من الموت، بل أراد أن يقول لنا إن بعد موت الضمير سيكون أطفالنا عرضة للخطر الشديد. لعلّ ما يحدث في الوقت الراهن من استهداف الأطفال وقتلهم بدم بارد يجسد نبوءة الكاتب التي تحققت.

أما بقاء العجوز في خيمة فترمز إلى رفضه اللجوء وإيمانه بعودته إلى اللد المدينة التي شرد منها واستشهد والده فوق ترابها، كأنه يقول لنا: بقائي هنا مؤقّت، ولست في حاجة إلى بيت، فبيتي في اللد وما زال العجوز يحتفظ بمفتاح منزله في اللد تحت وسادته: اتكأ على وسادته، فانزلقت الوسادة. رأيت تحتها مفتاحاً كبير الحجم وقديم الصنع يأكله الصدأ، استغربت أنه يحتفظ بمفتاح، فلا يوجد في خيمته شيء يستدعي وجوده. تناولت المفتاح، وسألته وانأ أتفحصه لماذا يستخدمه. تنهد تنهيدة حزينة، وقال: «كنا نستخدمه ذات مرة». لم أفهم ماذا قصد. سألته مستغرباً: وماذا تقصد؟ فأجاب وقد بدا غاضباً: «هذا مفتاح منزل والدي، هل فهمت؟». سألته بفضول أو ربما بغباء: لماذا تحتفظ به حتى الآن؟ رمقني بنظرة لم أفهمها وأجاب باستياء: «لهذا المفتاح قفل، ولذاك القفل هذا المفتاح! من يعلم متى سيلتقي هذا المفتاح بذاك القفل». قلت بعفوية وسذاجة: «أجزم أنهم كسروا القفل». انتزع المفتاح من يدي، وقال ساخراً: «وأنا أجزم أن أمامك الكثير لتتعلمه، أسأل الله أن نستخدمه ثانية في المكان الذي أُعدّ له».

أراد الكاتب القول لنا إن تحرير فلسطين واستقلالها لن يكون قريباً، ومن هنا خلق شخصية «صابر» الإبن دلالة على استمرار المعاناة والاحتلال، وليس تيمناً بـ«صابر» الأب الذي ظنت زوجته أن والده قد استشهد. «صابر» يعاتب والده منذ البداية ويلومه لأنه أحضره إلى عالم مكتظ بالظلم والفساد: «أنت الملام يا أبي، ليتك لم تفكر بإنجابي. ألم تكن تدري أن العالم الذي جلبتني إليه عالم مكتظ بالظلم والفساد؟ أم هل كانت شهوتك أقوى من أي إدراك لأية حقيقة؟». إلا أنه يدرك لاحقاً أن والده ضحية مثله، وأن من يستحق اللوم والعتاب هو سيدنا آدم عليه السلام، إذ أخرجنا من الجنة بسبب فضوله، وبالتالي تسبب لنا بهذه المعاناة، فاستحضر الكاتب شخصية «آدم» من خلال الحلم ليأخذه في رحلة يرى من خلالها ماذا فعل أولاده البشر بأنفسهم.

يتنوّع الصراع والتصادم في هذه الرواية بين قوى متعددة، وكل حدث يؤثر في الآخر بطريقة لبقة. وتبرز في الرواية ازدواجية الصراع، داخلياً وخارجياً، أما الداخلي فبين صابر ونفسه، إذ كانت تتجاذبه قوتان، مثل قوة الإرادة وقوة الإعراض، أو قوة الحق وقوة الباطل. قوة الحق تتمثل في حقه بالعيش بحرية وكرامة فوق تراب أرضه المغتصب، أما قوة الباطل فتتمثل في الاحتلال الذي حرمه أبسط حقوقه، حتى السير في الشارع من دون التعرض لأذاهم والاعتداء عليه بالضرب المبرح. كذلك حقه كخريج جامعي متفوق في الحصول على وظيفة كريمة تتناسب مع تخصصه. أما الصراع الخارجي فهو الصراع المركزي والمصيري الذي يتمثل باستمرار احتلال فلسطين، كامل فلسطين. وجليّ أن الروائي دبور سلط الضوء على الصراع الخارجي أكثر من الداخلي كي يزيد من انفعال القارئ، فالصراع هو النقطة الأشدّ تأثيراً في نفس القارئ، وهو اللحظة التي تبلغ بالقارئ أعلى درجات الانفعال مع استشهاد «دلال» زوجة «صابر» الحامل، بسبب مزاجية جنود الاحتلال. بذلك استطاع الكاتب أن يشد القارئ لمواصلة القراءة عبر إيصاله إلى أعلى مراحل الانسجام، ويزداد الانفعال في مرحلة احتدام الصراع ورؤية زوجته في ثلاجة الموتى مع جنينها الذي خرج للحياة ميتاً بسبب الغاز المسيل للدموع الذي أطلقه الجنود عمداً.

الحبكة أو تنسيق الصراعات مع الحوادث رغم تشابكها بصورة متسلسلة نحو الغاية التي أرادها الكاتب، فيستوعبها القارئ ويربطها بسلاسة في ذهنه، مستخدماً أسلوب الانحدار المنساب الذي حقق بلا شك الانسجام والتركيز لدى القارئ. فالصراعات الكثيرة التي وردت في الرواية مرتبة ومهندسة ومنسقة، سواء تلك المتعلقة بـ«صابر» أو بالعجوز، ما أنجح الرواية ولم يتسبّب للقارئ بالازعاج الذي يتسبّب به الانحدار الانكساري الذي يهبط بالقارئ من موقف إلى موقف وعلى نحو فجائي.

فكرة الرواية التي هي أساس العمل الروائي والدافع والمحرك لرغبة الروائي، أكثر من رائعة. الفكرة الرئيسية من رواية «صابر» تسليط الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني عامة والمخيم الفلسطيني بخاصة. ورغم أنها الفكرة الرئيسية للرواية إلا أنّ ثمة أفكاراً أخرى ثانوية تخدم الفكرة الرئيسية، فلكل صراع موجود في الرواية فكرته المرتبطة بالفكرة الرئيسية، وضمّن الكاتب عدة أهداف لإيصال مجموعة من الرسائل إلى القرّاء، بصورة غير متكررة كما ورد في عدة فصول من الرواية. أقتبس منها ما ورد في الفصل الأول حول الأخبار الخاصة بالقضية الفلسطينية والتي بقيت ثابتة ثبات الصمت العربي المخجل: « وأية أخبار؟ أخبار هرمة مللت سماعها، ضجرت من عناوينها المتكررة وتفاصيلها الممقتة. دائماً نفس الأخبار، أخبار القرن الماضي تعيد نفسها من جديد، تغيرت التكنولوجيا في بث الأخبار، تغيّر المذيعون، إلا أن الخبر بقي على ما هو عليه، لا يتغير. عناوين مفجعة تتكرر باستمرار، كلها تدور حول مسرحية هزلية طالت مُشاهدتها، بطولة أرض قيل إنها بلا شعب! أرض اغتصبت منذ عشرات السنين ولا زالت حتى اللحظة».

حول الشعارات البراقة التي طرحها العرب لتحرير فلسطين يقول: «عفواً، أخطأت! حررّها بعضهم بالكلام، وطئوا ترابها بالأحلام، صلّوا في أولى القبلتين وكلاب الصيد نيام، جوّعوا السمك ليطعموه لحم الاحتلال، مات السمك من الجوع، ومتنا نحن من ثرثرتهم وشعاراتهم البراقة، شعارات شوّهوا بها جمال وجوهنا وطُهر قلوبنا، جعلونا أكلة لحوم البشر، أكلة العظام وأسناناً ضعيفة، لطيفة، هشة لا تقوى على طحن حبات الزبيب».

حول تمسك الزعامات العربية بمقاعد القرار يكتب: «يا ويحهم! أسماؤهم تتكرر ليل نهار، رجال أبديون لا يتغيرون، ألصقوا مؤخراتهم المترهلة بمقاعد القرار، وقالوا لماشيتهم في وضح النهار: نحن منزلون، عدّوا لنا بعشرات السنين. أصوات متخمة مللنا سماعها، شعارات براقة أصمت آذاننا، سياسات موحدة تطبخ أفكارها في مطبخ معروف، معروف جداً، وعلى الشعوب المخدرة أن تأكل مما يقدم لها من وجبات مُهينة، مُذلة، مُجبرة لا مُخيّرة، فيبقى الخبر محتفظاً بشكله ومضمونه».

إلى الكثير من الرسائل الغاضبة والجريئة التي تعبر عن واقع القضية الفلسطينية والغضب الفلسطيني. وتتميز رواية «صابر» بالشمولية إذ تغطّي بأسلوب شائق أهم ما مرت به القضية الفلسطينية منذ النكبة حتى توقيع اتفاقية أوسلو. ولا تترك شأناً يخص القضية الفلسطينية إلاّ تذكره، مثل: حرب حزيران، وانضمام القدس الشرقية إلى القدس الغربية، وانسحاب اليهود من سيناء وقطاع غزة بعد فشل العدوان الثلاثي… إلخ.

النهاية محكمة ومفتوحة ومكتملة الفكرة، إلا أن القارئ يبقى متشوقاً إلى ما سيحدث لبطلها «صابر» الذي زج في مصحة الأمراض العقلية. يريد الروائي دبور أن يقدم إلى القارئ الجزء الثاني إذ يقول بطل روايته «صابر» في الصفحة الأخيرة: «هذه قصتي يا أبي، تفلق الحجر وتعبِّر عن جنون، وأنا لست مجنوناً وإنّما أمكث في هذا المستنقع النفساني لأترقّى إلى درجة مجنون، وعندما أتعلم فنون الجنون، سأعود وأسرد لك تاريخنا الجديد. سأحتفظ بصورتك لأحدثها عن فلسطين الجديدة. الآن شقشق النهار، واستيقظ سعيد وجاء موعد نومي. سأنام طويلاً، ربما أشهراً أو سنوات، وحين يذوب الثلج ويظهر ما كان مخفياً، سأعود… حتماً سأعود لأروي لك الجديد».

فكرة هذه الرواية لم تأت من الفراغ، فكثيراً ما ينثر الروائي أبعاد شخصيته على إنتاجه الأدبي، وقد تكون هذه الرواية حدثاً وقع في حياة الراوي وأثر فيه، وليس بالضرورة أن يكون حدث له شخصياً، إنما حدث في حياته فشارك في بناء فكرته. المحيط يؤثر في النفس، ومحيط الرواية هو مخيم الجلزون الذي يضم الذين هجروا من اللد والرملة وحيفا ويافا وبيت نبالا والسافرية وعنابة…وسواها، والروائي عاش في المخيم ونشأ فيه وتعرض للاعتقال عدة مرات، وسمع قصص المهجرين، ورأى ما رأى من الآلام التي دفعته إلى بناء روايته «صابر»، لتخرج من قلبه إلى قلب القارئ. ومما لا شك فيه أن الروائي سليم دبور تمكن من نسج الصراعات والحوادث لمتن روايته لامتلاكه الفكرة الكاملة والمهارة العالية منذ شبابه- والتي مكنته من بناء هذه الرواية بهذا الإبداع.

انتهينا من قراءة الرواية، لكن حوادثها ستظل تسكننا ما حيينا. ولا يسعنا إلاّ أن نهنّئ الروائي سليم دبور على هذا الجهد الأدبي الرائع، ونقدّم إليه جزيل الشكر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى