واقع أغرب من الخيال طَبَع الأدب بالحسرات والدموع وبالملحّ والضروريّ

كتب صباح علي الشاهر: كان لانتشار التعليم، واتساع قاعدة المتعلمين، وانتشار الصحف، وازدهار النشر لدى المطابع في أهم المدن العراقية مثل بغداد والنجف والموصل والبصرة، وتبلور الشعور والوعي الوطنيين، وبروز حاجة ماسة إلى التعبير أثر مباشر في نشوء فن القصة في العراق الذي ارتكز على إرث عراقي برع فيه «القصخون» الحكواتي الذي كان يبهر المستمعين بحكايته المنسوجة بإحكام يشد المستمع إليه في الدواوين، والمجالس والمقاهي في ما بعد، ويترافق أحياناً مع مسرحة الحدث أو الحوادث.

نشأت القصة العراقيّة معتمدة نهجاً خاصاً بها ينحو منحىً إجتماعيّاً جاداً. ومنذ بواكيرها كانت القصة العراقيّة تحاول معالجة مشكلة معيّنة من المشاكل الاجتماعيّة التي تشغل الناس أو تثير اهتمامهم. والغريب أن القصة العراقيّة في تلك المرحلة الباكرة، لم تكن متأثرة بأشكال القصص والروايات العربية التي سبقتها ظهوراً أو رافقت ظهورها، أو حتى القصص والروايات المترجمة التي كانت منتشرة ومتداولة في العالم العربي. بل كانت القصة والرواية العراقيّة التي امتلأت بها الصحف يومذاك تغزل على نولها الخاص.

كانت تلك المحاولات التجريبيّة في سنواتها الباكرة عبارة عن حكايات لم تقترب من مفهوم الرواية بل تقدم خصوصيتها التي سترافقها طويلاً. كانت القصص والروايات العربيّة والمترجمة تستند في معظمها إلى عقدة، وتقوم على علاقة حب رومانسية غالباً بين أفراد من طبقتين أو فئتين مختلفتين، وينشأ الصراع بين الحب النموذجي من ناحية والموانع والعقبات الإجتماعية والعائلية من ناحية ثانية، إذ تتعرض تلك العلاقة للتجاذب إلى أن تنتهي في نهاية المطاف بحل العقدة وجمع الحبيبين، وقد تنتهي تراجيدية أو مأسوية، وتلك العقدة هي العقدة التقليدية في القصص الشعبي منذ عنتر وعبلة، ومجنون ليلى، وصولاً إلى معظم القصص والروايات العربية.

هذا الشكل من القص الذي تميّز به القص العربي منذ رواية «زينب» لهيكل لم تعرفه الرواية العراقية، ولم نجد له صدى في ما أنجزه الكتاب في البدايات الأولى لفن القصة في العراق.

يبدو أن المثقفين العراقيين استيقظوا بعد الانعطافة الفكرية الحاسمة على كارثية البؤس الذي وجدوا أنفسهم فيه وحجم التخلف الذي يعيشونه. لقد اكتشفوا أنهم في ظل حكم استبدادي امتد خمس قرون انحدروا إلى أسفل القاع. كان التخلف مستشرياً ومنتشراً في كل جانب من جوانب الحياة، والظلام والجهل مخيّمين، والخرافة والشعوذة مهيمنة على العقول. لقد هالهم ما هم عليه من تخلّف، يتناقض ويتعارض مع ما يتمتع به الوطن من إمكانات وقدرات وتاريخ. طُمست حتى معالمهم الحضارية، فإذا كان العراق مهد الحضارات، فإن جميع معالمه الحضارية طُمرت واندثرت ولم يبق منها سوى أطلال مهجورة ومنهوبة. لا شيء يخبرك أنك في بلد سومر وأكد وبابل وآشور والعباسيين.

احتاج الأمر إلى وفود الأجانب، ألماناً وفرنسيين وبريطانيين وغيرهم، للكشف عن بعض معالم حضارات كانت تشع على العالم كلّه في الزمن الغابر، وليفرغوا البلد من إرثه الحضاري، أو القسم الأهم والأغنى من هذا الإرث. وإذ كانت متاحف لندن وباريس وبرلين تزخر بنفائس الحضارة العراقية، فإن المفارقة الصارخة أنه لم يكن هناك في بغداد متحف لعرض هذا الأرث، واحتاج البلد إلى سنين بعد الاحتلال ليتم اختيار بناية عثمانية قديمة ومتهالكة كي تكون مكاناً لعرض بعض الآثار التي سلمت من النهب.

كانت الصدمة الثانية ما أفرزه الاحتكاك بالأمم والشعوب الأخرى وكان الاحتكاك مباشراً عبر المحتل البريطاني، وغير مباشر عبر الاطلاع على ما حاول المحتل نقله إلينا، أو ما سعينا نحن إلى معرفته من علومهم وآدابهم ومعارفهم وفنونهم ونمط معيشتهم، وكان هذا الاحتكاك من الأسباب الجوهريّة التي جعلت المثقفين العراقيين يتساءلون عن سبب تخلفهم ودفعهم السؤال إلى البحث الجاد عن وسائل النهضة وسبلها. أصبح المثقف العراقي مهموماً بالبحث عن الطرائق المثلى التي يمكن أن تنتشل البلد مما هو فيه: ما العمل؟ ما الطريق؟ ما الوسيلة؟ وكيف يمكن بناء البلد الذي لم يبق فيه سوى الأنقاض؟

كان هاجس النهضة التي تستلزم مسابقة الزمن مطروحاً على بساط البحث. لا مجال للانشغال بالهوامش، ولا مجال للترف الفكري والإبداعي. لم ينغمسوا إلى حد الوله بالقصص والروايات الغراميّة، ولا بالحسرات والآهات والدموع، ولا حتى بأدب الخيال، فواقعهم أغرب من كل خيال، بل انصرفوا بجدّ وإخلاص تامين إلى معالجة ما هو مهم وضروري وملح، وما يرونه واجباً وإلتزاماً معنوياً وأخلاقياً. ينبغي ردم الهوة السحيقة، التي تشكل عاراً يحسون به بين واقع بلدهم وواقع البلدان الأخرى. منحوا أقلامهم وألوانهم للوطن والناس، وانطلق إبداعهم يحدّد المعالم ويؤشر إلى الحقوق التي يجب أن تقر، ويدلّ على غايات لم تدرك وقد لا تدرك البتة.

كان الحدث الثاني من حيث الأهميّة تاريخ العراق الحديث بعد الدستور العثماني، هو الإحتلال البريطاني للعراق. نزلت الجيوش البريطانيّة في جنوب العراق الفاو في تشرين الثاني 1914، إلا أن احتلال العراق لم يتم إلاّ بعد فترة طويلة تكبدت خلالها القوات البريطانيّة خسائر جسيمة في الأرواح والأموال بسبب المقاومة الضارية التي قُوبلت بها تلك القوات من المواطنين. احتلّت القوات البريطانيّة بغداد عام 1917، أي بعد ثلاث سنوات من دخولها العراق، ولعب هذا الحدث دوراً بارزاً في تحديد مستقبل العراق السياسي والاجتماعي.

الاحتلال البريطاني للعراق، رغم إدعاء المحتلين بأنهم جاؤوا محررين لا محتلّين، ورغم الوعود التي كانوا يطلقونها جزافاً، قُوبل بمقاومة عنيفة أخذت تتصاعد شيئاً فشيئاً وعلى نحو متسارع حتى انفجرت بثورة عمت العراق، كانت واحدة من أبرز وأمجد التواريخ السياسيّة في تاريخ العراق الحديث، والتي ستُدعى في ما بعد ثورة العشرين. أضافت هذه الثورة إلى عنفوان الفرد العراقي زخماً جديداً، وأعادت إليه الثقة بنفسه وقدراته، وطبعت التاريخ العراقي اللاحق بطابعها، وكانت نبراساً لكل عمل وطني لاحق.

صحيح أن الاحتلال البريطاني المباشر للعراق لم يستمر طويلاً، وكان أقصر احتلال في تاريخ الإستعمار ولم يمتد إلاّ ثلاث سنوات تقريباً، إذ وجدت بريطانيا نفسها، هي الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، مضطرة إلى منح العراق الاستقلال والإقرار بذلك. إلا أنه كان لهذا الاحتلال القصير تأثير مهم ومباشر في تحديد منحى الاتجاه الأدبي العام في العراق. فمن جرّاء الاحتكاك بالحضارة الغربيّة، سواء قبل الاحتلال أو خلاله أو بعده، وسواء كان هذا الإحتكاك مباشراً أو غير مباشر، إلا أنه نبه المثقف العراقي إلى ما تحويه الثقافة الغربية من عناصر إيجابية بالغة الإهميّة، كان يحتاج إليها لكي تكون إحدى أدواته للتخلص من عصور الظلام التي لفته.

إذا كان تأثر العراق بالحضارة الغربيّة قبل الاحتلال البريطاني تأثراً غير مباشر ومحدود جداً، فإنه أصبح بعد الاحتلال قد تأثراً مباشراً، إذ بات العراق على صلة مباشرة بأوروبا، فها هي الجيوش البريطانيّة أمام أعين العراقيين بأسلحتها المتطورة وعتادها الذي لم يعهده العراق قبلاً، وها هي العربات والمدرعات والمصفحات والطائرات الحربية، والقنابل التي تُلقى من الطائرات، وتلك التي تنطلق من فوهات المدافع، وها هو البريطاني بلباسه وعتاده، ورتبه ونياشينه، وهندامه وقيافته، وسلوكه، و«أتيكاته». ها هو العالم الجديد الذي كانت له الغلبة في مواجهة العالم القديم المنهزم والمنهار، وها هي المرأة تنهي الرجال وتأمرهم، وتقود وتخطط وتنحني المقامات العليا أمامها.

هزّت الحضارة الوافدة مع الاحتلال المواطن العراقي هزاً عميقاً وحرّكت المياه الراكدة وكثّفت إحساسه بتخلفه وسوء حاله وواقعه، ما دفعه إلى التفكير جدياً في تغيير هذا الواقع. كان هذا التصادم واحداً من الأسباب التي عززت المشاعر الوطنيّة التي أخذت تتجه إلى الدعوة العلنيّة للإستقلال، وفي تلك المرحلة تحديداً شهد العراق حركة فكريّة وأدبيّة نشطة وفاعلة اعتمدت أساساً التأليف والترجمة والتحريض على تجاوز الواقع المتخلف، عبر التخلص من المستعمر وبناء دولة عصرية حرّة.

لم يكتف الإستعمار البريطاني بتوزيع قواته على أنحاء العراق وفرض سيطرته وهيمنته على العراق كلّه، إنما طفق بإيجاد طبقة إجتماعيّة مواليّة له يمكن الاعتماد عليها والوثوق بها. تكوّنت تلك الطبقة أو الفئة من بقايا الأرستقراطيّة العثمانيّة، وهي فئات ليست عراقيّة صرف، وإن عاشت في العراق، وهي في الأغلب الأعم تركيّة أو مُتترّكة، ساهمت في إدارة شؤون الحكم في العهد العثماني وتمرَّست فيه وجدت نفسها معنيّة بإدارة شؤون العراق الحديث، إذ نقلت خدماتها من العثمانيين إلى البريطانيين، ومن ثم إلى ما سُمي لاحقاً بالحكم الوطني.

انتشرت تلك الفئات في بغداد والمدن العراقيّة الكبيرة، وورثت النفوذ الاقتصادي عن المرحلة القديمة، ثم استأثرت في ما بعد بالنفوذ السياسي، الذي امتد ليغطي القرن العشرين بكامله… لم يظهر أي نشاط إبداعي يذكر لتلك الفئات التي انصرفت إلى النشاط الاقتصادي، وإلى تكريس هيمنتها على دولة العراق الحديثة. ولم تكن تلك الفئة معنية باللغة العربية التي لا تجيدها إجادة تامة، ولا كانت تهتم أيضاً بامتدادات العراق العربيّة كانت تتجه بعلاقاتها إلى ما بعد الأقطار العربية، إلى تركيا وإيران الشاهنشاهيّة وباكستان، وإلى أي دولة أخرى تُشير إليها بريطانيا. عززت تلك الشريحة التي استأثرت بالحكم من اغتراب الحكم عن العراقيين، ومن تشديد موقف الاختلاف مع السلطة التي لم يشعر العراقي بأنها سلطته فعلاً، ما سينعكس على الكتابات القصصية التي ناصبت الحكام والسلطات المفروضة على الشعب العداء.

اعتمدت السياسة البريطانيّة على الإقطاع و«الكمبورادوريّة» الكبيرة نسبياً. أغدق البريطانيون الامتيازات على هاتين الفئتين، واستعملوا أسلوب الرشى وشراء الذمم لاستمالتهم إلى جانبهم، وللتمهيد لدخول قواتهم العراق واستباحته عسكرياً، بعدما استباحوه اقتصادياً في أواخر العهد العثماني.

تقول مسز بيل في كتابها «فصول من تاريخ العراق القريب ترجمة جعفر الخياط : «أما السياسة التي اتبعناها فهي أن نعيد إلى الشيخ نفوذه وسلطاته ونؤازره بحيث نجعله مسؤولاً عن سلوك قبيلته».

لم يتعرض نفوذ الشيخ إلى أي إضعاف في المرحلة السابقة، بل كان ملتحماً مع أبناء قبيلته لا يختلف عنهم في شيء، إلا في كونه الذي يأمر فيطاع، علماً أن الشيخ لم يكن ماضياً إقطاعيّاً بالضرورة، ولا حتى ملاكاً كبيراً، إنما هو رجل ذو مؤهلات يحظى بالإحترام والتقدير ولذا ينتخب رئيساً للقبيلة، ويمكن أيضاً عزله وتنصيب سواه بالطريقة عينها التي جاء بها، وكان يحظى بالنفوذ الفعّال بين أفراد قبيلته، ولم يضعف هذا النفوذ في الفترة التي سبقت دخول الإنكليز، لذا فإن قول مس بيل إن بريطانيا عملت على إعادة نفوذ الشيخ يحمل الكثير من المغالطة. إنها لا تصرّح بأن السياسة البريطانيّة عملت على شراء ولاء شيوخ القبائل بإعطائهم إمتيازات ما كانوا يملكونها في ظل مفهوم العشيرة الذي كان سائداً قبل دخول البريطانيين.

حوّل الإنكليز شيوخ العشائر إلى إقطاعيين ومنحوهم الأرض وأعطوهم حق التصرّف بها وحق التصرّف بالفلاحين عبر ما سُمي بـ»نظام دعاوى العشائر المدني والجزائي» عام 1918، وهو النظام الذي منح الإقطاعي سلطات استثنائيّة هي سلطات الأمير نفسها في العصور الوسطى في أوروبا… إن تعزيز الإقطاعيّة في العراق، وتكريس نفوذ الإقطاعيين في الريف قضى كلياً على التكافل الاجتماعي بين أفراد القبيلة، وشدد الظلم والاستغلال على الفلاحين الذين تحول معظمهم من ملاكين أحرار، وإلى أجراء ومزارعين، يعملون في أرض الشيخ التي لم تعد أرضهم ولا أرض القبيلة. تعمّق الشرخ بين شيخ القبيلة الإقطاعي وأبناء القبيلة الفلاحين المستغلين، وسيشهد ريف العراق انتفاضات متتاليّة ضد الإقطاعيين الذين هم شيوخ قبائل أيضاً. ولم تكن الرواية والقصة العراقيّة بعيدة عن ذلك إذ عكست بأمانة وصدق طبيعة هذا الصراع، كاشفة المظالم التي تجاوزت كل حدّ.

مع ضم العراق، باقتصاده المتخلّف، إلى النظام الإقتصادي الرأسمالي العالمي كتابع، تم دعم «الكمبورادورية» التجاريّة في العراق، انتشر وكلاء الشركات الأجنبية في طول العراق وعرضه القومسيونجية ، مسوّقين البضاعة الإنكليزيّة تحديداً، وكانوا وكلاء آلات الخياطة والسجائر والمشروبات والأقمشة والمعدّات وكل شيء تقريباً.

إن عرض هذه البضائع المتقنة الصنع، وبأسعار معقولة، تسبب بالقضاء كلّياً أو شبه كلي على الصناعة العراقيّة البسيطة التي كانت تعتمد في معظمها الورش الصغيرة، ولم يمض سوى عقد من الزمن حتى ماتت واندثرت كثير من الصناعات العراقيّة، وحلّت مكانها البضاعة الإنكليزيّة التي حظيت بدعاية كبيرة جداً ومبالغ فيها، فلا شيء مثل القماش الإنكليزي، ولا شيء يمكن أن يضاهي أو يصل إلى مستوى آلة الخياطة «سينجر»، ولا سجائر مثل سجائر «أبو البزون» و«روثمن»، ولا خمرة مثل الويسكي الاسكتدلنية، ولا عرق مثل العرق الإنكليزي، إلخ.

وللمفارقة أن أول سكرتير للحزب الشيوعي عاصم فليح أضحى المستورد الحصري للقماش الإنكليزي المستعمل للبدلات الرجالية، وكان القماش الإنكليزي الذي يباع في أسواق العراق ممهوراً بعبارة «مستورد خصيصاً لعاصم فليح»!

شيئاً فشيئاً تحوّل العراق إلى غلّة زراعيّة عليها أن تنتج ما تحتاج بريطانيا إلى إنتاجه، ولتحقيق هذا الهدف اتسعت المساحات الزراعيّة، وحفرت قنوات الري، وأقيمت السدود بوتيرة متسارعة، وشجع المزارع على زراعة محاصيل محددة تحتاج إليها الصناعة البريطانيّة. واقتصرت الحياة الإقتصاديّة على خدمة التجارة الخارجيّة المعتمدة على استيراد كل شيء تقريباً، وعلى تصدير المنتجات الزراعيّة، وتصدير النفط لاحقاً… وسيلازم هذا الطابع الاقتصادي المشوه الحياة الاقتصاديّة العراقيّة حتى قيّام ثورة 14 تموز عام 1958، إذ جرت محاولات حثيثة لم يكتب لها النجاح للخروج من هذا الواقع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى