الأخلاق والفلسفة في رؤية الكاتب أندريه كريسون

يعرض كتاب «المشكلة الأخلاقية والفلاسفة» للكاتب أندريه كريسون للمذاهب الأخلاقية اليونانية اللاتينية والمذاهب الفلسفية المعروفة لدى أفلاطون وأرسطو وسقراط وأبيقور هادفًا إلى تقريب مفهوم الفلسفة والأخلاق وتبسيط بعض المبادئ التي ترتكز عليها، كما يتناول الأخلاق اليهودية والمسيحية، مستعرضًا المسائل الخلافية الأصولية بين اليهودية والمسيحية حسب النصوص التي وردت من العهد القديم والإنجيل، ويستعرض ملامح الأخلاق في الفلسفة الحديثة، فيشير إلى أن ثمة طريقين متناقضين سلكهما الفلاسفة حين رأوا صرح الأخلاق الدينية المأثورة يتصدع، أحدهما أن يكشف في الأخلاق عن أساس مقنع واضعين بناءه على أساس علمي، والآخر أن تعتبر مسألة الأساس الأخلاقي عتيقة غير صالحة.

يقول المؤلف في مقدمة كتابه: «عندما نجد في شيء أو في شخص، أو في عمل، سببًا لسرورنا خاصة، فإننا نشعر نحوه برغبة تحملنا على البحث عنه، أو على القيام به. وحينما نشعر بأن في شيء، أو في شخص، أو في عمل، سببًا لآلامنا خاصة، فإننا نشعر نحوه ببعض يحملنا على الفرار منه، أو على تحاشيه. ومن هنا يلاحظ أن لذّاتنا وآلامنا ليست جميعًا من قبيل واحد، فبعضها مرتبط بإرضاء ما يسمى «الميول الأنانية» أو بمعارضتها. كل فرد يسعى إلى الاحتفاظ بحياته، بل هو يعمل فوق ذلك على أن يمكن لنفسه في سلم الحياة مكانة خاصة، ومن هنا ينشأ عالم من النزعات، ذلك العالم الذي لو انفرد بنفسه لحملنا على أن نتخذ من الأنانية شعاراً لنا: «كل شيء لي ولو على حساب الآخرين».

أما عن أساس المشكلة الأخلاقية، فيقول: «سواء أكانت اللذات أنانية، أم كانت إيثارية، أم منبعثة عن الضمير، فإن قلب الإنسان المتزن يستشعرها جميعًا، والنتيجة لكل هذا هي أن يتجاذب الإنسان مختلف الرغبات التي تنشأ عن دافع داخلي واحد، وإن تكلفة تلك الرغبات لا تكاد تنسجم في ما بينها. إن جميع الفلاسفة الذين عنوا بالمسألة الأخلاقية أدركوا الحقيقية: إن الأساس الأول للحياة الأخلاقية إنما هو «الإرادة الخيّرة» التي فسرها كانط، بيد أن لها معنى آخر أكثر شمولاً. لكي يكون المرء ذا إرادة خيرة عليه أن يقوم بأمرين: عليه قبل الشروع في العمل أن يتحقق بإخلاص – مما يجب عمله لكي يكون سلوكه أفضل ما يمكن في الأحوال التي تعرض له، والأمر الآخر أنه عندما يتكون له رأي صادق في ما ينبغي فعله، يجب عليه أن ينفذ في إخلاص تام ما بدا له أنه أفضل».

يتناول المؤلف المذاهب الأخلاقية اليونانية اللاتينية قائلاً: «يرجع الفضل الأول في ما كونه العالم الغربي من فلسفة أخلاقية إلى اليونانية واللاتينية، ويكاد يتفق جميع مؤرخي الفلسفة على أن سقراط كان مؤسس الفلسفة الأخلاقية في العالم الغربي. ففي عصر ظهور سقراط كان في اليونان نوعان من الفلاسفة، الميتافيزيقيون والسوفسطائيون. ورأى سقراط أولاً أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش كما ينبغي إلاّ إذا حقق عمليًّا القاعدة المكتوبة على معبد جزيرة دلفي: اعرف نفسك بنفسك. معرفة النفس هي الشرط الضروري ليستمد الإنسان من الحياة ما يمكنها أن تعطيه، بل يجب أن تعطيه. إن عرض «المذهب الأخلاقي» لأفلاطون ليس أسهل من تلخيص مذهب أستاذه سقراط، ذلك أن قدرًا كبيرًا من النصوص الأفلاطونية يتّصل بالأخلاق. غير أن أفلاطون ألّفها في أزمنة مختلفة ويظهر من ثنايا المحاورات أن رأيه خضع لتغيّرات لا تخلو من الأهمية. ثم إن محاورات أفلاطون تعليمية عامة كتبت لجمهور يجذبه كل ما هو براق لامع، لذا لم يأخذ أفلاطون نفسه دائمًا بوضع الانسجام بينها. أما المسائل التي خالفت فيها أفلاطون في كتابه «مينون» ورأي أن العلم ينتقل من عقل إلى عقل عن طريق البراهين والأدلة، وليست الفضيلة كذلك، فإن فضلاء أثينا لم يمكنهم لمجرد الدروس التعلمية أن يصيّروا أبناءهم فضلاء مثلهم».

ينتقل المؤلف إلى «مذهب أبيقور» قائلاً: إن مذهب أبيقور الأخلاقي من أشهر المذاهب القديمة اليونانية ـ اللاتنيية، وأثار تحمسًا وإعجابًا وأثار نقدًا حادًا. إن أمرين ـ بحسب ما يرى أبيقور يعملان يشقيان الإنسان، الإيمان بأن الآلهة يهتمّون بأمر بني البشر ثم الفزع من الموت الذي يتهددنا في كل آونة. أما المذهب الرواقي فإنه ذو نغمة أخرى، ولم يتكوّن في يوم وليلة. هذا المذهب عبر عنه أبيكتيت في قوة لا تضارع. إن المبدأ الأساسي لـ «الأخلاق الروايقة» هو الذي اعتاد قدماء الأخلاقيين ترداده «ليس للإنسان من عمل إلا أن يحيا بحسب طبيعته». غير أن الرواقين بسبب آرائهم المتيافيزيقية يفهمون هذا المبدأ فهمًا خاصًا بهم. إنهم ينظرون إلى العالم كحيوان هائل يتكون من عنصرين، عنصر منفعل هو المادة، وعنصر فاعل يحرك المادة من داخلها ويقوم على نموها، وهذا العنصر الفاعل هو «نار عاقلة تسير في أعمالها بحكمة»، إنها روح تبعث الحياة في الأشياء غير أنها ليست منفصلة عن تلك الأمور التي تبعث فيها الحياة.. إنها عناية منبثقة موجودة في كل مكان، تعمل في العالم مثلما تعمل الخميرة في العجين».

في القسم الثاني من الكتاب يتناول المؤلف «الأخلاق اليهودية المسيحية» فيرى أن رجال الفلسفة «اليهودية المسيحية» ذوي الصبغة اليهودية المسيحية يرتكزون على عنصر غير الذي عرف بين المذاهب الأخلاقية اليونانية والرومانية. إنهم يرون أن عالمنا هذا كان موطن وحي سماوي، وتجلى فيه الإله بذاته وجاء وسط بني الإنسان فعرّفهم ببعض الحقائق. حصل هذا الوحي بحسب ما يرى اليهود في مرة واحدة على طور سيناء حينما ألقى الله إلى موسى بالألواح. أما المسيحيون فيرون أن الوحي حدث مرتين، فكان ما أنزل على موسى شريعة موقتة، حتى إذا حل الله في شخص عيسى كمّل هذه التشريع ونشرها على الملأ كشريعة نهائية تامة. ولما نال الفلاسفة من سأم في مذاهب العصور الوسطى رأى الكثيرون منهم أن يرحبوا إلى وجهة المذاهب القديمة، لذا بدأوا يفكرون في «الخير الأعظم» ويحاولون تجديد فكرته بتحليل الآمال الإنسانية، وأن يستخلصوا من ذلك نتائج منطقية لما يجب أن تكون عليه الحكمة والفضيلة. وخير مثال على ذلك يتجلى في صنيع ديكارت الذي كان يعتبر الأخلاق أطيب ثمرة لدوحة الفلسفة التي تكون الميتافيزيقا جذورها والفيزيقا جذعها، لكنه كان يعتقد ـ أيضًا ـ يعتقد أن تلك الثمرة لا ينال جناها إلا أخيرًا. ومن المؤكد أن ديكارت كان عصريًّا جدًا إذ كتب: «إذا كان ممكناً أن نعثر على بعض وسائل تصيّر الناس عامة أحكم وأمهر مما كانوا إلى اليوم، فإني أعتقد أن أفضل طريق لذلك إنما هو طلبها البحث في الطب. إنما يبدو قديم النزعة جدًّا عندما يدعونا إلى أن نعتبر «الخيرات الخارجية كلّها أشياء بعيدة عن سلطتنا»، وأن ننظم رغباتنا بطريقة أن «لا نرغب في شيء لن نحصل عليه». وفي النهاية أن «نتخلص هكذا من مملكة الخير الدنيوي». وفي أيّ حال: نرى ديكارت في طيبته، وفي رواقيته، نائيًا عن وجهة النظر المسيحية المأثورة.

إن القرن التاسع عشر كان من خصوصياته أن تولد فيه تلك الأفكار التي نسميها هنا «المذاهب المنشقة». وفلاسفة هذه «التعاليم» يرون من العبث محاولة تعديل السلوك الإنساني، فكل جماعة في كل دور تاريخي لها مقرراتها الأخلاقية التي ما كان يمكن أن تتخلّف عن الظهور في الدور الخاص بها من التاريخ كما أن لكل فرد في كل لحظة من حياته أخلاقه التي ما كان يمكن أن يتخطى ظهورها تلك اللحظة».

في ختام الكتاب يقول المؤلف: «لا يوجد خلق من دون إرادة طيبة، والإرادة الطيبة تعتمد على أمرين، جهد صادق في كل أمر من الأمور لاستبانة ما هو الأجدر بأن يعمل، ثم إرادة منضبطة لكي ينفذ بالفعل ما أظهرت الرؤية أنه الأجدر بأن يعمل. إنّه الشرط الضروري في كل عمل أخلاقي. بيد أن هذا الشرط لا يكفي دائمًا، فحتى مع خير إرادة في الدنيا قد يكون المرء عرضة للضلال إذا لم يكن عالمًا تمامًا بخير ما يريد».

كتاب «المشكلة الأخلاقية والفلاسفة» للكاتب أندريه كريسون، ترجمة: د. عبدالحليم محمود وأبو بكر ذكري، في 391 صفحة قطعاً كبيراً، وصدر لدى «دار الرشاد للطباعة والنشر والتوزيع، في طبعة خاصة ضمن مشروع «مكتبة الأسرة».

«ميدل إيست أونلاين»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى