دهشة ممنوعة من الصرف في ديوان الشاعر سلمان صالح! دهشة ممنوعة من الصرف في ديوان الشاعر سلمان صالح!

محمد رستم

«من ترجيعات ينبوع»، هو العنوان الذي رفعه الشاعر عالياً كمدخل أولي وعتبة أولى للولوج إلى عالمه الشعري شرحاً «من» حرف جر نحت هنا صوب التبعيض بعض وترجيعات أي تردّد الصوت و»الينبوع» هو انبلاج الماء من باطن الأرض فالمتعلقات المضافة «من ترجيعات ينبوع»، تعود على مبتدأ أودع طيّ الكتمان والتقدير الديوان.

وفي الدلالة الرمزيّة الينبوع هو الشاعر ذاته، والترجيعات ما يردّده من ترنيمات يعزفها على قيثارة الحياة. وبالموازنة بين الينبوع والشاعر يكون الينبوع أدنى مرتبة، على اعتباره أحد تجليات المادة، من باب أنّ الإنسان هو أرقى أشكال التجلي. مؤيداً بقوله تعالى «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم»، «وربَّ متسائل يعجب»، كيف للشاعر أن يشبه الأعلى مرتبة بالأدنى، نقول: إنّ القصدية هنا والمراد منها هو التشبيه بأحد خصائص الينبوع، التدفق.. الترجيع ، وليس بذات الينبوع، وكمال الصورة في مشابهة ترنيمات الشاعر بصدى تدفق ماء النبع. فمن الملاحظ أنّ الصفة الملاصقة والغالبة لدال ينبوع هو عذوبة الماء وليس صدى الترجيع. والعنونة بذاتها تؤكّد المنحى الرومانسي للشاعر. هذا المنحى الذي تفرشه على شرشف الضوء قصيدة الافتتاح، فمنذ أن تنهّدت القصيدة ولثغت بأول حرف فاح عطر الطبيعة من ثناياها. فالتناغم مع الطبيعة حكم الكون الإبداعي للديوان.. لذا سأكتفي بالحديث عن المحور الدلالي الأهم والذي تشي به العنونة ألا وهو تماهي الشاعر مع الطبيعة. لعل الشاعر يدرك أنّ الدوال ذات المعاني المجرّدة، سائبة الحدود، هلاميّة الحجم، لا تروي عطشاً، لذا فهو يستبدل بها دوالَّ من الوجود تغني عنها، فقد استبدل بدال الأنوثة، دال بنفسجة. والبنفسج رمز الحزن في قوله: «بنفسجة يتعالى الهمس شفيفاً من كفيها.. يخترق الغيم يناجي أرواح الشعراء». وبدال الكراهية دال الغيم وبالتحليق الروحي دال مركب وبدال الغدر دال الذئب، «كيف ترضى بأن يسكن الذئب أضلاعك الحانيات؟»، وكأنه يريد أن يقول إن الحقيقة هي في الطبيعة ذاتها. ويتضح كيف يُبدي الشاعر حفاوة بالغة باعتماد مفردات الكون، حروفاً في ترنيماته مستغنياً عن الدوال ذات المفاهيم المعنويّة… وفي مطالع الديوان يقول: «يغريني صوت الينبوع تهادى… أسمعه مثل حنين جواني». هو بوح كنسائم الربيع يهزّ القارئ على أصابع الناي، ينثر سحراً، مع ملاحظة أن الحنين لا يكون إلّا جوانياً ، هو ذا الشعر يمد تلك الجسور الذهبية بين الموضوع كحالة خارجيّة والذات كجانب داخلي.

بين العالم كموضوعة وجودية وبين الحالة الإنسانيّة الجوانيّة. هذه الحالة التي لا يتوهج شذاها إلّا بالآخر حيث تضجّ الطبيعة بالعطر. فالميل إلى كفة الطبيعة كما يرى الشاعر ، هو تألق يقذف بك إلى رحابة المدى ويلون أعماقك بأطياف قوس قزح فتتعطّر روحك بندى الضباب وترياق الملذات، لأنّ من يبتعد عن الأم الأولى الطبيعة ، يخرج من نسق الحياة، والديوان يحيل الكون باباً لعطر المتعة، وعبق الدهشة، فيفتح لك مدائن الذات المملوءة توقاً إلى الدفء والسكينة، ويسمعك أهازيج صادحة في كل الفصول، تطوف بك في مزارع النجوم في حالة رومانسية عالية التوق مشبعة بالمحبة الإنسانية، يقول: «أناجي سوسنة تتفتح في أجساد الكون بلا أدران». هو بذلك يوسّع حدود الفضاء، وهو يرتل أناشيد الفجر احتفاء بقداسة النور فيرى الضوء وردة يقطفها: «أقطف الضوء من طيفها… ذاك الحجاب».

ولأن الشاعر يرى في الطبيعة وحدة متكاملة، لذا فهو يعبر بمفرداتها عما يريد البوح به، إذ يعتمد في مداميك القصيدة على موجودات الحياة فيعمّر بوحه بأكثر المواد روعة وسحراً وفتنة، وبذا يجعلنا نحس بثراء معطيات هذا العالم، يجمع الأحرف الراعشات، يطمئنها، ثم يمنحها وحدة للنماء، حين ألقى على حقل أسماعنا غيثه، بعد عمر من العطش المرّ، أخصبه ثم فاضت مواسمه وانتشينا معاً، صارت الريح قيثارة… ، وكأن عصافير جبران وينابيعه وغاباته وقيثارته علقت بحنجرة شاعرنا.

وفي حالة من التماهي الكامل مع وحدة الوجود يرسخ العلاقة التفاعلية العميقة مع الطبيعة، مؤكداً أنها علاقة عضوية بعيدة عن الحيادية والهامشية العابرة فيرى الجدول: «يلاعبني جدول، ثم يُرضعني لحنه قطرة… قطرة».

وبرومانسيته الخاصة المتفرّدة في ملكوت شعريته يعيد تخليق العالم وفق كينونة جديدة فيغدو للخمرة عين ويصير الأفق ناعس الطرف «قاب كأسين من نشوتي، كانت الخمرة عيناً، على أفق ناعس». وفي رحاب عالمه الجميل ينمو الشاعر على كتف الريح أجنحة من سحاب «وعلّمني كيف أنمو على كتف الريح، أجنحة من سحاب».

إن البهائية الجمالية التي تُحدث رعدة الدهشة في أعماق المتلقي هي حين تفتح عينيه على عالم سحري لا يرى إلّا في الخيالات «أنت والبحر، والمرمر البض، والنغم المستنير بقيثارة القلب، كون من اللغة المشتهاة» أو حين تعرض الحقائق بشكل موارب، فالثلج في حقيقته المخاتلة المختبئة خلف حجب المنظور، إنما هو ثمار من خير: «إنه الثلج لكنّه عالم من ثمار». وينادم الشاعر عناصر الكون ومفردات الوجود فيجسّدها شخصيات على مسرح الحياة، «يحدثني الليل عن نجمة كان يعشقها، يحدثني الصبح عن شاعر، أيقظ الشعر من نومه باكراً»، وفي حالة من المخاتلة تتخفى نون النسوة وراء أسداف من الخيالات مبدية بعضاً من عطر الدلال وظلال الغنج، «كلما خلت أني أراهنّ يسبحن في جدول الضوء، خاتلنني ثم أوغلن في أحجيات الدلال». والديوان يفرش الدرب وروداً أمام خبايا الروح التواقة إلى الانحياز التام إلى اللامحدود وكالصوفيين إلى الروح المطلق. وذلك بالانعتاق من رجس ملذات الصلصال الدونية للسمو بأجنحة ملائكية ترقى إلى ملكوت شفافية الروحانيات، فيوقظ فيك دهشة ممنوعة من الصرف، ممتلئة بوهج الفرح كل ذلك بلغة ناعمة سلسة ندية انسيابية تحتفي بالحياة وشاعرنا يعرف كيف يقتنص صوراً غارقة باللون والحركة والظلال. «يكتب الجلّنار قصائده فوق خديك ليلاً، يوقعها الفجر ثمّ تحملها العصافير جذلى إلى قبّة من شفاه الرحيق».

يمدّ هذه اللوحات ما يمتاز به وجدانه من كثافة في الحس الشعري، فتنثال القصيدة من بين أنامله بكثير من الوجد والعفوية تداعب الوتر الحسي للقارئ أخيراً أقول: إنّ الطبيعة أهدت الشاعر كنوزاً من الجمال لتفجّر في أعماقه ينابيع البوح العذب، وليردّ التحية بأحسن منها فيفتح أعيننا على سحر الكون وروعة الحياة.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى