ثقافة وفنون

«وهم الأنا».. وجوه عديدة والكاتب واحد!

} طلال مرتضى*

كثيراً ما نقوم باستنكار أو نعت أنفسنا بعبارات لا تليق بنا كبشر، وذلك حين يقع أيٌّ منا في مطبّ ما وغالباً ما نقول إنه أعمى قلب، ولكن حين نقع في الحفرة ذاتها لأكثر من مرة، هنا تقوم قيامة الحكاية والتي تتعدّى النعت بأعمى بصر لتنحو نحو أعمى البصر والبصيرة معاً، والسؤال المطروح الآن، لماذا لم نتعلم من الخطأ الأول؟

خطر ببالي وأنا أضع إشارة استفهام آخر السطر السابق وبعيداً عن قصة تعلّمنا من أخطائنا، أليس ذلك الذي نصب لنا تلك الفخاخ هو ذكي وعارف؟ فالأمر أن يسقطنا أحدهم في حفرة ما على غير دراية، قد يكون ضرب مصادفة، ولكن أن يوقعنا في الحفرة ذاتها لأكثر من مرة فتلك تحسب له. فبالنسبة لي أقول، أنا الملوم الأول لكوني لم أستطع تطوير أدوات الوقاية التي تقيني شر الوقوع، لهذا كان سقوطي حتمياً هنا. وهذا أمر طبيعي نعيشه في اليومي الحياتي والشواهد كثيرة..

لكن ماذا لو كان ناصب تلك الفخاخ كاتباً عليماً وقبل هذا وذاك قارئاً متمكناً!فتلك ليست المرة الأولى التي يجرني الكاتب عبد الحليم حمود اللبناني وبطواعية مني ليسقطني في فخه القرائي والذي أوقعني به خلال قراءات سابقة، وهذا بالفعل ما جعلني أنادد ذاتي وأقوم بجلدها لوماً، وكي أبرر لي هذا السقوط المدوّي، أقول لربما كنت أتناول بعض القراءات السطحية وهو ما يفتح لي باباً للهرب، ولكنني في واقع الأمر أستنكف مسايرتي لي من دون الإقرار بأنه استطاع تسجيل هدف ذهبي في مرماي وفي الزاوية ذاتها التي مرّر منها هدفه السابق..

في «وهم الأنا» والتي وسمها عبد الحليم حمود بكلمة رواية والتي ذهب بها إلى غير مكان وزمان هذه المرة بالمفارقة مع كتاباته السابقة والتي أتابعها عن كثب، لكنني وعندما أتممت طقس القراءة أستطيع القول بأنه ذهب هذه المرة نحو تعمية تجنيس نصه الكتابي «نص هجين»، لعله ومن الزاوية التي يراها يدرك تماماً بأن النص الذي وسمه بكلمة رواية لم يستوف شرط النص الروائي، ولكنه كعارف ربما يستطيع الهرب به أماماً تحت عتبة مقولات أدبية فضفاضة على سبيل المقال، النص الحداثي. وعلى أي حال فهو ليس بنص روائي على الرغم من أنه يتوسل لبوس الروي من باب أن النص قائم على شخصيات حقيقية وفاعلة وحدث غالباً ما يكون متصل منفصل. وكي لا أغرق في إسهابي لحكاية تجنيس النص والذي أعده، عابراً للأجناس الأدبية وتلك رؤيتي الخاصة، سأذهب إلى افتعال آخر، وهو بحد ذاته يجعل من نص حمود ملتبس، كبناء الشخصيات التي يجترعها لتقوم بنصه والذي يعمل وبدأب لتأصيلها في ذهن القارئ. شخصيات مفارقة لواقع نعيشه ومشبعة ثقافياً بمقولات وأفعال توازي أفعال البشر. وبالتأكيد هذه ليست خاصية تتمثل بالكاتب حمود وحده، فمعظم الكتاب يجتهدون لخلق شخصيات تقارب مثيلات لها في الواقع. وهنا المفارقة مع حمود والذي يجعلنا نعيش نصّه الكتابي مع شخصيات أصلها على الورق ونتابع عن كثب حراكها والذي يودي في نهاية مطاف الكتابة نحو الخواتيم لنقع أمام الصدمة الكبرى والتي تنفتح أمامنا وتسلمنا مفاتيح دوالها التي تشي بأن تلك الشخصيات الثلاث أو الأربع ما هي إلا وجوه لشخصية واحدة، وهنا لا يمكننا المرور عبثياً من دون أن ننحني ونرفع القبعة إجلالاً..

«وهم الانا».. أشي بأنها الوليد البكر الذي خرج من لدن روايته السابقة «يوري.. إله السمكة السوداء»، وهنا لا بد من الاعتراف بأن قارئ العملين معاً يُصاب بحيرة وينتابه شك موقن وقد يكون أثيم الدلالة تحت معطى السؤال، هل تلك الولادة شرعية، جينات النص الذي خرج من تحت عباءة يوري يجعله موضع نقاش، نقاش محتدم وعميق يجرّ قارئه نحو الفلسفات والمقولات المحملة في كلا العملين الأدبيين معاً. فالكاتب حمود غالباً ما يفسح ومن خلال خيط رفيع المجال لشخصية ما من عمل أن يترك أثراً ما أو نقطة علام ما في رحم النص الذي يليه..

من باب النقد يمكن لنا محاكمة نص عبد الحليم حمود وربما الإيقاع به، لكون النقد قائماً على مقولات واستبيانات تبحث عن الهوية التي يحملها أي نص كتابي أو طريقة البنيان وغيرها كسلطة المكان والزمان ليقيم عليه الحدّ من خلال مفاتيح ومقاربات معدة، مسبقاً لهذا المنحى الذي يخضع أي نص للقياس. وهذا ما يجعلني ألعب بعيداً وبتحرّر من سطوة الكاتب لأقول، كان على عبد الحليم حمود أن ينهي منجزه هذا عند العتبة المعنونة «وهم الأنا» لأن كل ما تركه بعد هذه العتبة ما هو إلا سرود تاريخية لم تخدم السياق، ليكون هذا الذي تركه ما يقع تحت المسمى «لزوم ما لا يلزم»، فالحكاية انتهت هناك عند وهم الأنا تحديداً

نجح حمود في محاكاة أو السير على الخط الذي نهجه قبله «لوران غويل» الفرنساوي حول السعي لاكتشاف معنى الحياة وإرضاخ أنا الذات للمسائلة من أجل تجلي مكنونات النفس التي تعتمر الخير والشر..

على الرغم من أن الشخصيات التي اجترعها حمود على الورق استطاعت أن تشغل ذهنية القارئ وتثبت حضورها الفعلي في رأسه نساء أو رجال، لكنه لم يستطع أن يخفي أنفاسه ويبقيها كأكواد مخبوءة داخل صدور تلك الشخصيات، فهي كانت تتنفس بأنفاسه لدرجة تجعل قارئها بأن يتلمس بأنها تحمل جينات حمود الكاتب والقارئ وأخيراً الإنسان، الذي أراد في لحظة ما أن يحمل جزءاً من آثام تلك الشخصيات على عاتق أناس فاعلين في حياتنا ليخرج هو كمحايد، تلك الشخصيات التي نعرفها أمثال رولان بارت وغوته وأحمد فؤاد نجم والنواب وسيوران وغيرهم..

وهذا ما جرّني في الختام إلى التوقيع قبل أن أضع نقطة آخر السطر لأقول، تعدّدت الأصوات في النصّ ولكن الكاتب واحد.

 

* كاتب عربي/ فيينا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى