مقالات وآراء

الفلسفة المدرحيّة.. فلسفة أصيلة تقدّم الترياق لخلاص الأمة والعالم (2/3)

أنطون سعاده دعا شعراء سورية وأدباءها للاطلاع على كنوز التراث السوريّ الروحيّة لتوليد أدب جديد

 

} د. ادمون ملحم

فلسفة الغايات الخالدة:

والتفكير الجديد الذي بدأته النهضة القومية الاجتماعية ليس تفكيراً وقتياً يخدم غايات خصوصية أو حالات ظرفية، بل هو تفكير راقٍ يعكس إدراكاً عالياً للقضايا الاجتماعية ــــ الاقتصادية في العالم ويُعنى بالأمور الجوهرية والغايات الخالدة والمرامي السامية من الفكر وهذه المرامي لا نهاية لها. في خطابه في الأول من آذار عام 1949، يقول سعاده: «في سيرنا في طريق النهوض، وفي عملنا بالقواعد الأساسيّة لهذه الحركة، نشعر أنّ الحياة التي نحياها هي حياة لا نهاية لها، لأنها مربوطة بالغايات العظيمة التي هي، كنفوسنا العظيمة: لا نهاية لها!..»(40). والتفكير الجديد يعنى، أيضاً، بالإبقاء على أفضل القيم والمثل العليا وبتحقيق الارتقاء والبحبوحة والعدل الاجتماعي ــــ الاقتصاديّ. يقول سعاده:

«إنّ تفكيرنا الاجتماعي ــــ الاقتصادي لم يعد من ذلك النوع الصوفيّ الذي يمثّله الأدباء المجزرون، الذين يرون المذاهب والعقائد الاجتماعيّة مجرّد «أزياء وقتية»، مهما تألم من بعضها ملايين الناس.. إنّ تفكيرنا الاجتماعي ــــ الاقتصادي لم يعد على مستوى تلك السفسطة التي بدأ أدباء الجمود والفناء على حشو أدمغة السواد منا بها».(41)

هذا التطور الفكري الرائع في حياتنا الفكرية وفي تفكيرنا الاجتماعيالاقتصادي وصفه سعاده بالانقلاب الفكريّ العظيم الذي «لم تشهد أمة من أمم العالم أروع منه ولا أسمى».(42) وهذا الانقلاب الذي حصل بتخطيط مبدع يعتبر نتاجاً لا بل إبداعاً للأمة السورية متجلّياً بعقل أنطون سعاده وشخصيته الاجتماعية العبقرية التي تمثّلُ يقظة الأمة وحيويتها وتعبِّرُ عن حقيقتها وجوهرها وعن أمانيها ومقاصدها السامية في الحياة وهو القائل بكل وضوح، في ختام كتابه الأخير «الصراع الفكري في الأدب السوري»: «إنّ ما دفعني إلى إعطاء هذا التوجيه هو محبة الحقيقة الأساسية التي وصل إليها تفكيري ودرسي وأوصلني إليها فهمي، الذي أنا مديون به كله لأمتي وحقيقتها النفسية».(43) وفي خطابه في حفلة الأول من آذار عام 1949 يقول:

«كل ما فينا من خير وطموح وعظمة ليس شيئاً من خصوصيّات الأنانيّات الصغيرة المحدودة، التي لا يمكن أن تبني عظمة أو تتسع لعظمة وطموح، بل هو من صميم العظمة الواسعة، اللامتناهية، المستمرّة التي هي عظمة المجتمع عظمة الأمة السورية التي نحن أبناؤها وموطّدو حقيقتها وعظمتها».(44)

وهذا الانقلاب الفكري كانت نتيجته ولادة الفلسفة المدرحية التي أتت بنظرة جديدة جامعة للمذاهب الفلسفية الإنسانية المتنافرة، وطامحة، بارتكازها إلى العقل والعلم والمعرفة الهادية والوعي القومي الصحيح، إلى إقامة الحياة المثلى وتحقيق غايات إنسانيّة، لا غيبيّة، وإشادة عالم جديد أفضل وأجود من الموجود.

فلسفة ارتقاء الثقافة

الفلسفات الجزئية المتنافرة والأحادية التفسير (من شيوعيّة وماركسيّة جامحة واشتراكية ونازية وفاشية ورأسمالية خانقة وشخصانية أنانية وفوضوية) تصادمت مع بعضها وحاولت السيطرة على شؤون العالم وثرواته ولم تنتج إلا النِزاعات الدولية والحروب العالمية والإقليمية والإلغائية المُدّمِرة والأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والاضطرابات وحوادث العنف والشغب وأدت إلى إفقار الشعوب وإخضاعها في نظام عالميّ طبقيّ وإلى تخبّطها ضمن مجتمعاتهابين طبقات ساحقة ومُرهِقة وطبقات محرومة ومسحوقة مادياً ونفسياًومعاناتها من مشاكل الفقر والبؤس والبطالة والمجاعة والقمع والاستغلال واللامساواة وانتشار الإرهاب المنظّم والجرائم المنظمة والمخدرات والأمراض والأوبئة والتلوّث البيئي والأسلحة النووية والبيولوجيّة والجرثوميّة الفتّاكة وبروز مشكلات الأقليات الأثنية والطائفية المعقّدة والمتقوقعة وغيرها من المشاكل والأزمات العالمية والمجتمعية التي لا يمكن تعدادها.. وإزاء فشل هذه الفلسفات الخصوصية المتنافرة، أو كما يسمّيها سعاده: «الفلسفات الأنانية التي تحيا بالتخريب»(45)، وفشل أنظمتها وديمقراطياتها بحلِّ التناقضات الداخليةالنعرات العنصرية والعصبيات الطائفية والطبقية والإقطاعية والعشائرية والعائليةوكل الأضاليل الاجتماعية ــــ الاقتصادية التي نشأت في المجتمعات.. وإزاء فشلها بحلِّ مشكلة الاستعمار الاستيطاني وحقوق الشعوب في سيادتها على نفسها.. برز سعاده بفكره الإبداعي المستقل معلناً رفضه للصراعات المهلكة ومؤكداً انها صراعات مميتة ومؤدّية إلى الهلاك و»إنّ المجتمع السوري لا يمكنه أن ينتظر وأن يقف جامداً تجاه مشاكل المجتمع والإنسانية..»(46) وبالتالي فإنه لا إنقاذ من هذه الصراعات إلا باعتماد مبدأ التفاعل المتجانس المحيي القائم على الانفتاح على ثقافات العالم وعلى قبول واحترام وجود المجتمعات وحرياتها وخصوصياتها: «لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي بينما العالم يكاد يهلك في صراع مميت بين مبدأ الترجمة المادية للحياة البشرية ومبدأ الترجمة الروحية للأعمال الإنسانية».(47) لذا فإنّ الحركة السورية القومية «ترفض الإقرار باتخاذ قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي أساساً للحياة والأعمال الإنسانية. ولا تقف الحركة السورية القومية عند هذا الحد، بل هي تعلن للعالم مبدأ الأساس المادي ــــ الروحي للحياة الإنسانية، ووجوب تحويل الصراع المميت إلى تفاعل متجانس يحيــي ويعمر، ويرفع الثقافة ويُسيّر الحياة نحو أرفع مستوى».(48)

وبتفكيره الجديد ونظرته الشاملة إلى الحياة والكون والفن، يؤكد سعاده على دور التفكير السوري الإبداعي الحضاري بترقية الثقافة وبتسيير الحياة نحو أرفع مستوى معلناً: «إنّ الحركة السورية القومية لم تأتِ سورية فقط بالمبادئ المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة».(49) وهذه القاعدة تقدّمها الفلسفة المدرحية الجديدة «القادرة على التأسيس أو البناء لحياة أسعد حالاً وأبقى مآلاً».(50) وهذه القاعدة ترتكز على العلم والمعرفة الصحيحة وعلى وجدان الإنسانالمجتمع وعقله الواعي، المتحرر، الذي يتيح له أن يمزقَ الحجب ويكتشفَ نواميس الحياة الاجتماعية وأن يخرجَ من ظلمات التخلف والجهل والانحطاط ومن عالم الأوهام والخوارق وفوضى النظريات الغامضة والمفاهيم المبلبلة في تعيين الحقائق إلى حالة الوضوح والجلاء واليقين، حالة التفكير الصحيح والوصول إلى معرفة الحقيقة الإنسانيّة التي تؤدي إلى وضع الحلول الناجعة لمشكلات المجتمع الإنساني وخطط النهوض الراقية التي تطلق المواهب الخيّرة والعقول النيّرة التي تفعل في الوجود ثقافة وإنتاجاً وخيراً وتعميراً ورقياً والتي تنتج المعارف الجديدة في شتى الميادين فتساهم في إغناء فكر الإنسانية وتدعو الشعوب لنبذ التخاصم والتصادم والاقتتال ولتجنب الحروب والكوارث والويلات واعتماد ثقافة التفاعل الحضاري: تفاعل الثقافات والمعارف والتجارب والخبرات من أجل إشادة عالم حضاري جديد يقوم على ثقافة الخير والحق والعدل والتعاون والتواصل والتفاهم والسلام بين الأمم واحترام حرياتها وسيادتها.

فلسفة التفاعل:

إن مستقبل الإنسانيّة ورقيّها مرهون بالفلسفة المدرحية المُنعِشة وبما تقدمه من نظرات جديدة في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والفن وفي غيرها من المجالات لأنها فلسفة خيِّرة ومُنعشة وصالحة لتقدم الحياة الإنسانية وعمرانِهَا.. يقول سعاده: «إن هذا العالم يحتاج اليوم إلى فلسفة جديدة تنقذه من تخبط هذه الفلسفات وضلالها. وهذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج إليها العالمفلسفة التفاعل الموحد الجامع القوى الإنسانيّةهي الفلسفة التي تقدمها نهضتكم».(51)  ويضيف:

إني أقول إنّ النظام الجديد للعالم لا يمكن أن يقوم على قاعدة الحرب الدائمة بين الروح والمادة ـ بين المبدأ الروحي والمبدأ المادي ـ بين نفي الروح المادة ونفي المادة الروح، بل على قاعدة التفاعل الروحي –  المادي تفاعلاً متجانساً، على ضرورة المادة للروح وضرورة الروح للمادة، على أساس مادي ـــ روحي يجمع ناحيتي الحياة الإنسانية. بهذا المبدأ ـ بهذه الفلسفة ـ فلسفة القومية الاجتماعية ـ تتقدم النهضة السورية القومية الاجتماعية إلى العالم واثقة أنه يجد فيها الحل الصحيح لمشاكل حياته الجديدة المعقدة، والأساس الوحيد لإنشاء نظام جديد تطمئن إليه الجماعات الإنسانية كلها وترى فيه إمكانيات الاستقرار السلمي واطّراد الارتقاء في سلّم الحياة الجيدة.(52)

وهذه الفلسفة، التي نجد فيها تعبيراً عن حاجات إنسانية عامة ورؤى لقضايا اجتماعية واقتصادية، لا تقوم على التفسير الواحدي، بل على مبدأ جامع هو مبدأ التفاعل الماديّالروحيّ الطبيعيّ في حياة الشعوب.. فالجماعة المتفاعلة مع بيئتها الجغرافية في وحدة الحياة والمصالح تُنتج ثقافتها العمرانيّة وتتطّور حياتها وفاقاً لتطور التفاعل بينها وبين البيئة الطبيعية بدافع حاجاتها في الحياة.. ويقول سعاده في كتابه «نشوء الأمم»: «لا يمكننا أن ندرس الثقافة ومراتبها ونتابع تطوّرها إلا في سياق التفاعل، أي في تتبع أعمال الإنسان على مسرح الطبيعة».(53) فالبيئة الطبيعية هي هامة لحياة الإنسان وهي مسرح أعماله ونشاطه وسعيه لبلوغ حاجاته وبقاء ذريته وهي التي تقدم له الموارد والإمكانيات والمواد الخام لاستغلالها وإرضاء شعوره بالحاجة. فهو يؤثر في البيئة ويكيّفها لتوافق حاجاته الحيويّة ويتأثر بها في الوقت ذاته ويكيّف حاجاته وفقاً لتكوينها الطبيعي وخصائصها.

والجماعة تكتسب شخصيتها من نوعية مزيجها السلالي ومن نوعية البيئة التي تفاعلت ضمنها العناصر التاريخية المكّونة لهذا المزيج. فالبيئةالأرض بخصائصها (حدودها وطبوغرافيّتها)، وظروفها الطبيعية هي قوام شخصية الجماعة تُضاف إليها مؤهلات الجماعة واستعدادها للاستفادة من طبيعة الأرض وإمكانياتها وشعورها بارتباطها الوثيق بالأرض التي تملكها..

وشخصية الجماعة الخاصة، المكتسبة من البيئة نتيجة التفاعل الطبيعي القائم على التعاون والاشتراك الوثيق في أسباب الحياة لفترة طويلة من الزمن، تتجلى بوحدة الجماعة النفسية، بثقافتها وبنظرتها الواحدة إلى الحياة والكون والفن. إن الاشتراك في الحياة الواحدة يولّد نضوج الجماعة ووعيها لشخصيتها ومميزاتها ولوجودها المجتمعيّ، وهو ما يُعرف بالوجدان الاجتماعيّ أو القوميّ، أي الشعور بوحدة الحياة والوجود ووحدة المصير وضرورة الاتحاد لتأمين المصالح المشتركة في حياة الجماعة، أو المجتمع، ويجعل وجود هذه الجماعة وجوداً اجتماعياً متماسكاً.

إن مبدأ التفاعل الجامع هو المحرّك الذي يقود تطور البشرية وارتقاءها في ثقافاتها المادية والثقافية. الثقافة النفسية بما تشمله من ظواهر الحياة العقلية تقوم على الأساس المادي، أي على الثقافة المادية وتجاربها. فالحياة العقلية، يقول سعاده، «لا يمكن أن تأخذ مجراها إلا حيث تستتبّ لها الأسباب والمقوّمات. ولذلك نجد التّطوّر الثّقافيّ بجميع مظاهره يرتقي ويسبق غيره حيث أسباب الحياة أوفر وأرقى ممّا في سواه..».(54) إن الثورة السورية الثقافية التي تمثلت بطورها الأول: ثقافة التجارة التي قام بها الكنعانيّون (الفينيقيّون)، وهي عامل اقتصاديعقلي ساهم في تفاعل الثقافات واكتشافها وفي نشوء علاقات تجارية وصناعات عديدة، ومن ثم باستنباط الأحرف الهجائيّة، التي قادت «العالم في طريق المعرفة والعلم وتفوّق القوى العقليّة على صعوبات الطّبيعة»(55)، هذه الثورة السوريّة وضعت أساساً متيناً للثقافة الإنسانيّة وفتحت طريقاً جديداً للارتقاء «انتهى إلى عصر الآلة الصّناعيّة الّذي هو عصر التّمدن الحديث».(56) وكما يقول سعاده:

منذ الفترة الّتي ظهرت فيها الأبجديّة إلى جانب التّجارة واتّحد هذان العاملان في التّفاعل الاقتصاديّ الاجتماعيّ، اتّجه الاجتماع البشريّ نحو الحياة النّفسّية (العقليّة) وسيطرة العقل على كنوز الطّبيعة ومواردها. وفي هذه الحياة الجديدة تساهم الأمم المتمدّنة. وبوجود هذه الحياة ووسائلها يمكن الآن ملايين البشر أن يفكّروا في قضايا الإنسانيّة الحيويّة والاجتماعيّة مستقلّين ومشتركين وأن يشتركوا في ثقافة إنسانيّة عامّة يدهش المفكّر لألوانها المتعدّدة تعدد القوميّات، وللخصائص النّفسّية الّتي تنكشف عنها في أمم عددها عدد البيئات.(57)

ولعلَّ الدولة، كمظهر اجتماعي ثقافي، أهم المظاهر الثقافية وأجدرها تمثيلاً للحياة العقلية.(58) وهي تقوم على حياة المتحد وإرادته. كذلك، فإنَّ «الدّين ظاهرة نفسية عظيمة الخطورة من ظواهر الاجتماع البشريّ. إنّه ظاهرة قد نشأت وارتقت بعامل تطوّر الإنسانيّة نحو سيطرة النّفس وحاجاتها في شؤون الحياة. وهو قد تطوّر مع تطوّر البشريّة ولن ينفكّ يتطوّر بتطوّرها».(59)

إذاً، بالمبدأ الجامع الوحدويّ، القائم على قاعدة التفاعل الطبيعي، الإيجابي، بين ناحيتي الحياة المجتمعية الإنسانية: الأساس المادي (أي العوامل المادية التي تشمل العناصر البشرية والمادة الطبيعية وهي الإقليم بجغرافيّته ومزاياه) والبناء النفسي (العوامل الروحيّة التي تشمل القيم والشرائع والقوانين والتقاليد الاجتماعية واللغة والأدب والتربية) المنتج للعمران والحضارة بمظاهرها المادية والروحية، بهذه الفلسفة الجديدة – «فلسفة القومية الاجتماعيةتتقدم النهضة السورية القومية الاجتماعية إلى العالم واثقة أنه يجد فيها الحل الصحيح لمشاكل حياته الجديدة المعقّدة، والأساس الوحيد لإنشاء نظام جديد تطمئن إليه الجماعات الإنسانية كلها وترى فيه إمكانيات الاستقرار السلمي واطّراد الارتقاء في سلّم الحياة الجيدة»(60).

فلسفة تعبيريّة

الفلسفة المدرحيّة هي فلسفة تعبيريّة بمعنى أنها تُعبِّرُ عن آمال المجتمع السوري النبيلة، عن إرادة الأمة ونفسيتها ومثلها العليا وعن آمالها ومطامحها وغاياتها السامية في تحقيق وجود سامٍ وعالم إنساني أجمل. وهناك أمثلة عديدة في كتابات سعاده تؤكد على صفة التعبيرية.. أولاً، في شرحه لمبدئه القومي يقول سعاده: «إن في المبدأ السوري القومي الاجتماعي إنقاذاً لا يقتصر على سورية بل يتناول وضعية المجتمع الإنساني كله، ونهضتنا لا تعبِّرُ عن حاجاتنا نحن فقط بل عن حاجات إنسانيّة عامة».(61)

ثانياً، الزعيم هو المعبِّر الأوفى والأسمى عن حقيقة الأمة وأمانيها برسالته الجديدة وبما جاء به من مبادئ سامية دعانا إلى اعتناقها «باعتبارها الوحيدة المعبّرة عن شخصيتنا القومية وحقوقنا».(62) ففي النشرة الرسمية الصادرة بتاريخ 15/11/1947 يقول سعاده: «إنّ الزعيم قد وضع رسالته أمانة في قلوب القوميين الاجتماعيين وعقولهم. وهي الرسالة التي عبّر بها ليس عن نظرته الشخصية الفردية إلى العالم وشؤونه، بل عن نظرة الأمة السورية إلى الحياة والكون والفن، ولذلك أصبحت هذه عقيدة القوميين الاجتماعيين وإيمانهم لأنهم وجدوا فيها التعبير عن نفسية أمتهم وخططها في التاريخ».(63) وفي الكلمة ذاتها يُضيف: «وقد عاد الزعيم اليوم ليتابع أداء رسالته العظمى المعبّرة عن فكر الأمة السورية وإرادتها ومُثُلها العلياعن نظرتها إلى الحياة والكون والفن».(64)

ثالثاً، في كلامه عن المارشال الفرنسي بتان (Marshal Henri-Philippe Pétain ) الذي بذل جهده ليكون راسماً لدور جديد وأراد أن يكون مسيطراً، يقول سعاده: «ولكن السيطرة العصرية تقتضي مزايا غير الاستبداد الشخصي. إنها تقتضي التعبير عن أماني أمة بإيجاد فكرة فلسفية أساسية تشمل الحاجات والمرامي ومثلاً عليا جديدة كفكرة الحركة السورية القومية في سورية. فبدون هذه الفكرة الفلسفية الأساسية لا يمكن توليد حركة».(65)

رابعاً، في خطاب ألقاه في سانتياغو عام 1940، تحدّث سعاده عن التفكير السائد في العالم كله والذي لم يعد تفكيراً صالحاً لتحقيق خير الأمم وفلاحها لأنه «دخل في طور الشيخوخة»(66)، وقال إن «البشرية بأسرها تنتظر تفكيراً جديداً تنال به سعادتها وراحتها وحريتها، وهذه البضاعة الجديدة سيخرج أكثرها وأفضلها من سورية بلاد العبقرية والنبوغ».(67) فما هو هذا التفكير الجديد؟ باختصار، هو طريقة جديدة بالتفكير، تقدّمها الفلسفة المدرحيّة بنظراتها الجديدة في الاجتماع بكل أشكاله النفسية والاقتصادية والسياسية، وهي بمثابة انقلاب فكري جديد في «تفهُّم إرادة الشعب» و»إصلاح الخلل الاجتماعي الذي يريد التفكير السوري الحديث أن يصلحه».(68) ويوضح سعاده أن «هذا الانقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة السورية القومية القائلة بالعودة إلى الأساس والتعويل على «التعبير عن الإرادة العامة» بدلاً من «تمثيل الإرادة العامة» الذي هو شكل ظاهري جامد».(69) بكلام آخر، ان الانقلاب الجديد هو انقلاب على مبدأ التمثيل، الذي يعني شيئاً جامداً، واستبداله بقاعدة التعبير الصحيح، الذي يعني الإنشاء والتجديد، أي الخلق والإبداع والتعبير الصالح عن الإرادة العامة. لذلك يقول سعاده: «فالتفكير السوري القومي الجديد هو إيجاد طريقة جديدة اسمها «التعبير عن إرادة الشعب»، وهذه الطريقة هي الاكتشاف السوري الجديد (الذي تقدّمه المدرحيّة) الذي ستمشي البشرية بموجبه فيما بعد».(70)

فلسفة وجوديّة صراعيّة

الفلسفة المدرحيّةَ لا تعنى بالماورائيّاتِ ولا تقدِّمُ نظرياتٍ مجرّدةً وتصوّراتٍ سفسطائية وتكهنات غيبية وخياليّةً أو تعليلات افتراضيّةً كتلك التي تقدمها الفلسفات الدينيّة، التي تهتمّ بتشريف الحياة وتحسين الخليقة وبمصير الإنسان وخلود نفسه بعد الموت، بلْ هي فلسفةٌ وجوديّةٌ صراعيّةٌ عمليّةٌ تصّبُ اهتمامَهَا على الوجودِ وقضاياهُ وتسعى لاكتشاف هذا الوجود والإحاطة به وتحسينه وصولاً لتحقيقِ الحياةِ الحرّةِ الجميلةِ، حياةِ العزِّ والخيرِ والشرفِ والتقدم، والتي في تحقيقها واستمرار تقدمها نرتقي إلى قمم أعلى وأرقى نتمكّن من خلالها النظر إلى الكون الماثل أمامنا.

في شرحه للمبدأ الأساسي السابع، يشرح سعاده توجه فلسفته، فيقول:

إننا لسنا من الذين يصرفون نظرهم عن شؤون الوجود إلى ما وراء الوجود. لسنا من الذين ينصرفون إلى ما وراء الوجود، بل من الذين يرمون بطبيعة وجودهم إلى تحقيق وجود سامٍ جميل في هذه الحياة وإلى استمرار هذه الحياة سامية جميلة.(71)

وفي شرحه للمنحى الصراعي الذي تتميّز به الحركة القومية الاجتماعية وقدرتها على مواجهة المتاعب والصعاب وعدم استسلامها للواقع والهروب من الحياة، يقول سعاده:

نحن لسنا مستسلمين. نرى في الحياة متاعب ونرى أننا قادرون على حمل المتاعب والانتصار عليها.

نحن نحمل المتاعب، لا ننوء ولا نرزح بها، ننتصر عليها ونخرج إلى مرح وانشراح في الحياة إلى تحقيق للوجود، الذي لا يمكن أن يكون عبثاً أو وهماً

نحن لا نطلب التعويض. نطلب الحقيقة بذاتها وهذه الحقيقة هي حقيقة انتصار النفس السورية على كل ما يعترض سبيلها في تحقيق نفسها، تحقيق مثلها العليا، تحقيق مقاصدها الكبرى(72).

ولقد احتقر سعاده الذينَ تخلّوْا عن طريقِ الحرّيّةِ والصراعِ واختارُوْا طريقَ العبوديّةِ والعيشَ الذليلَ وقالَ: «ويلٌ للمستسلمينَ الذينَ يرفضونَ الصراعَ فيرفضونَ الحريةَ وينالونَ العبوديةَ التي يستحقونَ».(73)

 

 

هوامش

(40) «سعاده في أول آذار»، ص 102.

(41)  سعاده، «العقيدة السورية القومية الإجتماعية وبحث الديمقراطيين عن عقيدة»، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 46، 15/6/1942.

(42) المرجع ذاته

(43) سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، بيروت، 1960، ص 71.

(44) راجع خطبة الزعيم في حفلة الأول من آذار عام 1940، منشورة في كُتيّب «سعاده في أول آذار»، ص 98.

(45) رسالة من الزعيم إلى القوميين الاجتماعيين، 10/01/1947، منشورة في  نشرة عمدة الإذاعة بيروت، المجلد العدد 1، 30/6/1947

(46) سعاده، النظام الجديد، بيروت، المجلد 1، العدد 1، 1/3/1948

(47) راجع خطبة الزعيم في حفلة الأول من آذار عام 1940، منشورة في كُتيّب «سعاده في أول آذار»، ص 58.

(48)  المرجع ذاته..

(49) المرجع ذاته.

(50) سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، من الظلمة إلى النور، ص 53.

(51)  رسالة من الزعيم إلى القوميين الاجتماعيين، 10/01/1947، منشورة في  نشرة عمدة الإذاعة بيروت، المجلد العدد 1، 30/6/1947

(52) المذهب القومي الاجتماعي (من خطاب الزعيم في الاجتماعي القومي في نادي «شرف ووطن» في بوينُس آيرس في ديسمبر/ كانون الأول سنة 1939)

(53) سعاده، نشوء الأمم، ص 74.

(54) المرجع ذاته، ص. 89.

(55) المرجع ذاته، ص 85.

(56) المرجع ذاته، ص 85.

(57) المرجع ذاته، ص 85.

(58)المرجع ذاته، ص  90.

(59) المرجع ذاته، ص 161.

(60) المذهب القومي الاجتماعي (من خطاب الزعيم في الاجتماعي القومي في نادي «شرف ووطن» في بوينُس آيرس في ديسمبر/ كانون الأول سنة 1939).

(61) سعاده في أول آذار 1956، ص 59.

(62) رسالة إلى غسان تويني، صدر عن مكتب الزعيم، 4/8/1946

(63)  النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، العدد 1، المجلد 1، 15/11/1947

(64) المرجع ذاته.

(65) سعاده، «مصير فرنسة وإمبراطوريتها، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 43، 1/5/1942

(66) الزعيم في سانتياغو، سورية الجديدة، سان باولو، العدد 67، 25/05/1940.

(67) المرجع ذاته.

(68) المرجع ذاته.

(69) المرجع ذاته.

(70) المرجع ذاته.

(71) أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص  107.

(72)  أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 131.

(73) أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 168.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى