«إسرائيل» من قيمة مضافة إلى عبء استراتيجي

في مرحلة ما قبل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، كانت «إسرائيل» تتخندق في المحور الفرنسي ـ البريطاني، وكانت أميركا قوة صاعدة في الحرب العالمية الثانية تحجز لنفسها مكانة الدولة الاعظم بعدما تشظّت فرنسا ودُمّرت بريطانيا. في العدوان الثلاثي على مصر عندما تشاركت «إسرائيل» مع كل من فرنسا وبريطانيا في العدوان على جمال عبد الناصر وقفت أميركا في موقع الضاغط من أجل التسوية، وكان الانذار الشهير المعروف «بآيزنهاور» لوقف العدوان في اللحظة التي بدأ جمال عبد الناصر وشعبه وجيشه يقتربون من تحقيق النصر. لكن على رغم ذلك كان الموقف الأميركي متميزاً ومدخلاً إلى حسابات لها أساسها في رسم خط بياني افتراضي صاعد لعلاقة مصرية ـ أميركية.

منذ العدوان الثلاثي كان خيار مصر الذهاب بالتسلح في وجه «إسرائيل»، وبناء قوة عسكرية، وإصرار على إعادة الاراضي المحتلة في فلسطين، والسير في خط تنمية تصاعدي لبناء قدرة اقتصادية تجعل لمصر مكانة بين دول العالم تؤمّن الرفاه للشعب المصري، وبوابتها صناعة ثقيلة وزراعة متطورة، خصوصاً من خلال مشروع السدّ العالي الذي شكّل محور حركة لجمال عبد الناصر في السعي إلى التمويل والدعم، وكذلك في بناء صناعة وطنية قادرة على توفير المستلزمات الاساسية لاحتياجات السوق المصرية. هذان هما النهجان اللذان سلكهما جمال عبد الناصر، نهج التمسك والاستعداد لبناء القوة العسكرية لمواجهة «إسرائيل»، ونهج بناء القوة الاقتصادية في الزراعة والصناعة. إنّ افتراق مصر عن أميركا بدأ في مطلع عام 54/55/ حيث كانت التجاذبات قائمة على رغم أن الدراسات الخاصة بالسد العالي قد أنجزت من قبل الأميركيين، وعلى رغم أن طلبات التسلح المصرية كانت موجودة على طاولة وزارة الدفاع الأميركية، بدأ الافتراق لأن مصر التي تريدها أميركا دولة تبعية لا دولة استقلال، والتي ترتضي أن تكون أميركا هي الراعي لعلاقة بينها وبين «إسرائيل»، علاقة تقوم على حفظ أمن «إسرائيل» ومكانتها، كما حدث لاحقا في «كامب ديفيد». مع هذا الافتراق بدأ الاقتراب «الإسرائيلي» ـ الأميركي.

«إسرائيل» تحولت ليس فقط إلى محمية أميركية، بل إلى مخلب ورأس حربة أميركية، والأساس هي الحاجة الأميركية إلى تأديب كل من يفكر بالاستقلال وشق عصا الطاعة على الهيمنة الأميركية في الشرق الاوسط. وبعد مؤتمر «يالطا» الذي تمّ بين الاتحاد السوفياتي ودول الحلفاء، كان التقسيم الطبيعي للنفوذ أنّ نفط الشرق الاوسط تحت سيطرة «إسرائيل» حيث تركيا وإيران الشاه و«إسرائيل» ركائز الهيمنة الأميركية، و«إسرائيل» هي الضامن لعدم بروز حركات للاستقلال الوطني والسيطرة على الموارد والثروات، أو حركات التحرر في العنوان التقدمي بمعنى ذات صلة بالاتحاد السوفياتي. وضمن هذا المفهوم وقعت المواجهة 1958عندما شكلت أميركا حلف بغداد الذي ضم نظام الشاه والنظام العراقي في عهد نوري السعيد وتركيا و«إسرائيل»، ومهمته تأديب جمال عبد الناصر وقمع أي حركة استقلال وتحرّر في المنطقة.

العامل المحدد في العلاقة «الإسرائيلية» ـ الأميركية كان أن لدى «إسرائيل» القدرة الجبارة التي تستطيع أن تؤدّب كل دول المنطقة مجتمعة، وأن تفرض عليها بقوة السلاح مشيئة الولايات المتحدة الأميركية أي أنّ «إسرائيل» هي الشرطي القادر على التأديب . وازدادت الحاجة إلى «إسرائيل» من قبل أميركا. ووثقتها المتزايدة بـ«إسرائيل» مع تدني ثقتها بالانظمة التابعة لها في المنطقة، والتي بدت أنظمة هشة، بدءاً من نظام الشاه الذي كان يشكل ركيزة يعتمد عليها، وبعدها بدأت الشعوب تستيقظ ولا أحد يستطيع أن يضمن أن ثمة نظام باق على ولائه لأميركا إلى الأبد، الا «إسرائيل» لأنها جاليات مستجلبة وليست تعبيراً عن نبض اجتماعي له جذور وتاريخ، ونظام الحكم فيها عبارة عن تركيبة اجتماعية داخلية لها عمر افتراضي لا يطاول خياراتها الخاصة بعلاقتها بأميركا، لهذا كانت «إسرائيل» النموذج التي تحتاجه أميركا نموذج الدولة الشرطي ونموذج الشريك والدولة التابع الذي توقع معه معاهدة تعاون استراتيجي في تبادل المعلومات والتكنولوجيا ومصادر القوة الاساسية التي لا تتقاسمها أميركا مع دولة أخرى.

كلما مر زمن إضافي تأكدت للأميركي أهمية «إسرائيل»، وبالتالي استمرار تزويد «إسرائيل» بالسلاح والأموال وحمايتها سياسياً، بحيث أن «إسرائيل» لا تحاسب ولا تُسأل في مجلس الامن وفي المحافل الدولية، والفيتو بيدها لا بيد أميركا وصاحب الرأي الاول في أي مسألة أو موقف هو لها.

عزّز مكانة «إسرائيل» وجود جالية يهودية معتبرة ووازنة داخل الولايات المتحدة الأميركية، تمسك بمصادر المال في بورصة وول ستريت في نيويورك، وتمسك بأكبر مؤسسات الاعلام العملاقة، وتمسك معها بقوة ضاغطة في الكونغرس في التواصل مع النواب والتأثير على الرأي العام. وتشكيل كتل الضغط التي تغير وتؤثر في قرارات الادارة، وبالتالي «إسرائيل» عبر اللوبيات الصهيونية واليهودية المتطرفة حاضرة في السياسة الأميركية الداخلية، ويقيم لها حساب كل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، لذلك نرى الروؤساء الأميركيين ووزراء الخارجية لديهم برنامج ثابت في التواصل السنوي في المؤتمر السنوي لآيباك وهي مجموعة منظمات التي تعرف بِاسم لوبيات الضغط التابعة للحركة الصهيونية وجالية المؤتمر اليهودي العالمي.

كانت «إسرائيل» وكيلاً معتمداً له هامش واسع من الاستقلال يتمتع بالحماية الكاملة عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً، ويحصل على المساعدة عند الضرورة، ومدللاً له مكان لدى الرؤساء الأميركيين، وتمنح حق الفيتو في المسائل الكبرى في المنطقة.

هذة العلاقة بدأت تدخل بالاهتزاز واللرتباك مع بدء مؤشرات أن «إسرائيل» لم تعد «إسرائيل». حدث هذا في بداية التسعينات عند التحضير لمؤتمر مدريد للسلام الذي كانت تراه أميركا بأنه فرصة من أجل أن تمتلك «إسرائيل» شرعية تاريخية، وأن الأميركي في ذروة ما يحلم به من قوة، حيث الاتحاد السوفياتي يتفكك، والوضع العربي منهك، والدول العربية التقدمية لم يبق منها الا سورية، وبالتالي يجب عليها أن تجد لنفسها مكانة في المعادلات الجديدة في لحظة الانهيار، وبعد سقوط جدار برلين، فالسقف السوري ليس مرتفعاً، والوضع الفلسطيني في أسوأ حالاته ومؤشرات الانتفاضة الفلسطينية مقلقة بالنسبة إلى أميركا على أمن «إسرائيل»، وخطر تطورها إلى مواجهة مفتوحة، هذه اللحظة بنظر أميركا هي اللحظة الذهبية والفرصة، لفرض سلام يرتضيه العرب ليس فيه ضريبة تتخطى حدود الانسحاب من الجولان لحساب سورية، لكنه يكرس في الساحات الاخرى اليد العليا «الإسرائيلية»، بمعنى دولة فلسطينية منزوعة السلاح حدودها محاطة بِاحتلال «إسرائيلي». لا تملك مقومات اقتصادية وليس لها الحق أن تبني جيشاً، وأن تكون جزءاً من معادلة دفاع، ولا أن تكون ذات سياسة خارجية مستقلة، هي بالبعد المدني مجرد مجلس بلدي كبير، لتخديم المواطنيين الفلسطنيين وإزاحتهم كعبء يتعامل مع «إسرائيل» كقوة محتلة، لكن من دون أي قدرة سياسية للتصرف كدولة.

لم تتوقع واشنطن ممانعة «إسرائيل»، وكانت تعتقد أن الظروف مواتية لفرضها، وأن سورية دولة الممانعة الوحيدة في المنطقة لن تستطيع أن ترفض صيغة لاسترداد الجولان كاملاً، وأن موقفاً فلسطينياً بدء يتبلور باتجاه المفاوضات التي أدارتها واشنطن في أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والقيادة «الإسرائيلية»، ومفاوضات أردنية ـ «إسرائيلية» في وادي عربة، وبات يبدو أنها تصل إلى حلول مرضية لـ«إسرائيل»، فتُجنى هذه المكاسب «الإسرائيلية» مع تنازلات نسبية في الساحة السورية لضمان مشاركة سورية، واستطراداً لبنان، وتنال «إسرائيل» شرعيتها التاريخية، فكان اغتيال إسحق رابين بعدما قدّم وديعته، الوثيقة التاريخية التي يلتزم فيها لسورية بالاستعداد للانسحاب إلى خط الرابع من حزيران، وفقاً للصيغة التي كانت تصر سورية عليها. رحل رابين وبدا أن مسؤولاً «إسرائيلياً» من بعده قادر على مواصلة المسيرة.

هنا بدأ الافتراق الاستراتيجي بالنظرة الاستراتيجية، «إسرائيل» غير قادرة على صنع السلام وعاجزة عن خوض حرب، بعدما حمل احتلالها لبنان تباعاً نتائج مواجهات 1993 و1996 وصولاً إلى الانسحاب عام 2000، إذ بدت «إسرائيل» أوهن من بيت العنكبوت، وأنها فقدت الركن الاول: الذي أسماه بن غوريون ـ مؤسس «إسرائيل» ـ القدرة على احتلال الارض والبقاء فيها وإذا خسرتها بدء وجودها يطرح على طاولة البحث، وتلاه عام 2006 فقدان الركن الثاني وهو قدرتها على التأديب والردع، وعلى الذهاب إلى حرب. فقدت «إسرائيل» هذين الركنين وأميركا تقول لـ«الإسرائيليين»: لاتستطيعون الاحتفاظ بالارض ولا الردع، فكيف ترفضون خشبة الخلاص ومحورها القيام الشجاع بعملية السلام.

سقطت «إسرائيل» الجيش الذي لا يقهر والقوة الجبارة التي تعتمد عليها أميركا، وأصبحت تريد من يحميها، فتحولت من قيمة استراتيجية مضافة في الحسابات الاميركية إلى عبء استراتيجي على المصالح والسياسات الاميركية. إن الذي تغير هو خضوع السياسة الأميركية في الشرق الاوسط للفيتو «الإسرائيلي» والرسم السياسي «الإسرائيلي». ففيما «إسرائيل» تنهار، تصعد القوى الجديدة في المنطقة، وفي طليعتها إيران، والأميركي يعلم أن إيران صامدة أمام تهديداته وعقوباته، لكنها صامدة أكثر على ثوابتها برفض العبور من خلال «إسرائيل»، وها هي «إسرائيل» لم تعد تلك القوة الجاذبة ولا تلك التي تُهاب في المنطقة.

تقرير بيكر هاملتون يقول سنتعامل مع إيران ونتعاقد مع سورية ونفتح على القوى الحية في المنطقة، وعلينا أن نعترف بأننا فشلنا و«إسرائيل» فشلت، فمنحت أميركا الفرصة لـ«إسرائيل» للاستدراك، وقالت ماذا لديكم من بدائل: حرب تموز، حرب غزة، الرهان على تغيير في إيران، الرهان على أخونة المنطقة، الرهان على صلح عباس ونتنياهو، الرهان على تنظيم القاعدة، وها هي كلها قد وصلت إلى طريق مسدودة.

نفذ الوقت ولم تتغير المعادلات، و«إسرائيل» أعجز وأضعف، وبات المطلوب إنقاذها من نفسها وفقاً للعقل الأميركي وعقل اللوبيات والجاليات اليهودية في أميركا، وتأتي زيارة نتنياهو الطلقة الاخيرة لإنقاذ الموقف، ولكن ما يجري على أرض الواقع يرجح الكفة لصالح الخطاب الاميركي لا لخطاب نتنياهو.

معادلة أميركية جديدة ستولد من زيارة نتنياهو، وسنرى تدخل أميركا في السياسة «الإسرائيلية»، إذ أصبحت «إسرائيل» كأيّ «نظام عربي»، وستتدخل أميركا في الانتخابات «الإسرائيلية» عوضاً عن تدخل «إسرائيل» في الانتخابات الأميركية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى