تاريخ العود.. جزء من ذاكرة وهوية الفن السوري
دمشق ـ سانا
يعتبر «العود» سلطان الآلات الشرقية وعنوان الطرب الأصيل، ترجم بلغة أوتاره قصص الفن السوري وإبداعات أبناء هذه الأرض الذين يعتبرونه جزءاً أساسياً من تراثهم الثقافي اللامادي الموروث عن أجدادهم، ويعملون على تطوير المعارف والمهارات المتعلقة به.
تُقاس جودة العود بنوعية الخشب أولاً وتنتهي باللحن، أما كلمة عود فهي لفظ عربي يعني “الخشب”، وتتطلب صناعته مهارة ودقة بدءاً من الوتر وانتهاء بالوتد، حيث يصنع من خشب الجوز لقابليته للتطويع وألوانه المتدرّجة والصوت الصادر عنه “أحنّ”، إضافة إلى شجر السرو.
ويستخدم الحرفيون في زخرفة آلة العود رموزاً مستوحاة من حياتهم وثقافتهم المتوارثة عن الأجداد. ولا تزال هذه الآلة حاضرة في العديد من المناسبات الاجتماعية والثقافية، كما استطاعت موسيقاها أن تنتقل من جيل لآخر وتتطوّر دون التخلي عن أصالتها لكونها عنصراً رئيسياً في التراث الثقافي اللامادي للمجموعات والأفراد والحفاظ عليها يعني صون جزء كبير من ذاكرتهم ومرتكزات هويتهم الثقافية.
وتحدث عيسى ميشيل الباحث في الآلات الشرقية القديمة وخبير صيانة الآلات الوترية في المعهد العالي للموسيقى عن تاريخ “العود” الى وكالة سانا، فقال: “إن أقدم ظهور لآلة العود يعود إلى العصر الأكادي نحو 3000 عام قبل الميلاد في منطقة ما بين النهرين “بلاد الرافدين”، وهو ما أكده علماء الآثار من خلال المكتشفات الأثرية والرسوم الجدارية، واستخدمته مصر أول مرة بالمملكة الحديثة في 1500 قبل الميلاد، وفي سورية ظهر العود بالقرن 15 قبل الميلاد، في حين انتشر في فلسطين وشبه الجزيرة العربية وبلاد الإغريق بالقرن الرابع قبل الميلاد، وصار بعدها معروفاً في جميع الدول العربية”.
وتحدّث عوض عن تأثير الموسيقي المشهور زرياب على آلة العود في العصر العباسي، والذي عمل على تخفيف وزن الآلة سواء كان شكلها مربعاً أو مستطيلاً أو دائرياً، أما أوتار العود عند زرياب فكانت ثلاثة أوتار ومن بعده كان لتلميذه إسحاق الموصلي دور في زيادة وتر رابع على العود، وأعطى كل وتر اسماً ومنها “الزير والبم والتك”، وتمّ تلوين الأوتار المصنوعة من أمعاء الحيوانات كنوع من الطبائع، كما كان يصنع صدره من الجلد لكن بسبب تأثره بالعوامل الجوية تحولت صناعته لمادة الخشب، مع ملاحظة أن الريشة التي كانت تستخدم خشبية قاسية، ولها تأثير مؤذ للأوتار ليتم استبدالها بريشة النسر، واليوم تصنع من مواد مختلفة يتم صقلها لتتكيّف مع الأستاذ والطالب أو العازف.
وأشار عوض إلى أن العود كان مرافقاً لصوت الإنسان أو التخت الشرقي أو الجلسات والسهرات، أما اليوم فباتت له مدارس مختلفة من “دمشقية ومصرية وخليجية وغيرها”، مبيناً أنه في المدارس الحديثة طوّرت الآلة، ومنهم الموسيقار فريد الأطرش الذي عمل على إضافة وتر، حيث صار هناك تنفيذ للموسيقا بأوسع أبوابها ولم تعد محصورة بمغن أو تخت شرقي، وإنما وصل انتشارها لتقديم مؤلفات خاصة بالعود في حواريات قد تكون مع البيانو والأوركسترا، مبيناً أنه حسب حاجة المؤلف أو العازف تتم إضافة أوتار إضافية بهدف الوصول إلى ما يحقق مساحة صوتية للعلامات الموسيقية.
ومن أشهر صناع العود السوري قديماً وفق ما ذكر عوض، عائلة نحات الدمشقية الذين وصلوا لمرحلة إبداع كاملة بصنعة الآلة والمعروف أنه قبل عام 1900 كانت قياسات العود غير منتظمة ليتميز عمل هذه العائلة من أبناء وأحفاد بالدقة والمتانة والجودة وانتظام المقاسات، إضافة للناحية الجمالية للعود، حيث أدخلوا عليه حرفة الموزاييك مستخدمين الألوان الطبيعية من الأخشاب المصنعة للعود من الجوز والسرو والمشمش والورد، ناهيك عن تغنيهم بالفتحة الصوتية التي تميزت بدقة لا متناهية، وأخذت أشكالاً مختلفة مع الحفاظ على جودة وقوة ومتانة الآلة.
واستعرض عوض أشهر صناع العود الدمشقيين قديماً سنباط بدروسيتان وعبد المجيد الحموي والإخوة القضماني، وفي المرحلة الوسطى كان منهم قربيت بيدروسيان ومحمد صافي وعلي خليفة الجد، وفي العصر الحديث يعمل الحفيد علي خليفة بهذه المهنة، حيث نسخ المدرسة الدمشقية وطورها مع ملاحظة أنه قديماً كان العمل يدوياً، ومن حلب كان منهم ميشيل خوام وجميل قندلفت الذي صنع عوداً من الصدف، وقدمه لفريد الأطرش ونعيم جرجي دلال الذي تميّز عوده بالفتحات الصوتية، وفي حمص عادل أديب ومصطفى العوير، لافتاً إلى أن صانع العود كان لا يتقن العزف عليه، أما اليوم فباتوا موسيقيين محترفين، وهم أيضاً صناع أعواد مهرة، ما جعل التطور واضحاً ومتقناً لكون (العازف المصنّع) أقدر على معرفة الأخطاء وتلافيها.
وختم عوض: “إن صوت العود الدمشقي يتميز عن باقي المدارس بتكنيكه وصوته وما يميز صوت العود الدمشقي، لكونه مبنياً على الشجن والصوت الرخيم والدفء فهو صوت حنون”.