الديبلوماسية الغربية: مصالح شركات أم سياسات دول؟

إنعام خرّوبي

بعد سلسلة زيارات شهدناها لمسؤولين ورؤساء حكومات غربيين إلى طهران، ها هو وزير المالية البريطاني يحطّ رحاله في العاصمة الصينية. صورة الوزير البريطاني في بكين، أسوة بزملائه ممّن سبقوه إلى طهران، لا شكّ أنها لافتة، وخصوصاً أنّ سياسات بلادهم المصنّفة ضمن محور «العالم الحرّ» تختلف إلى حدّ كبير عن نظيرتيها الصينية والإيرانية التي كان بينها وبين ذلك المحور «ما صنع الحدّاد»، كما يقول المثل.

في الثابت العام، من الطبيعي أن يتلازم الحدث السياسي مع الاقتصادي والعكس. فقد أوجد التوقيع على اتفاق فيينا النووي، وما تلاه من مناخات تعاون بين إيران والغرب، بيئة خصبة لتطوير العلاقات بين الطرفين سياسياً واقتصادياً.

للوهلة الأولى، يبدو مستغرباً كيف أنّ إيران التي صدّر الغرب صورة قاتمة عنها لعقود، وعوّدنا على انتقاد سياساتها الداخلية والخارجية، ووصفها على أنها تهديد للأمن والسلم الدوليّين، أصبحت جزءاً أساسياً من معادلات الاستقرار الإقليمي، وربما الدولي، باعتراف الحلفاء والخصوم على حدّ سواء. الواضح أنّ كعكة الاستثمارات والنفط والسوق الواعدة المتوافرة في الداخل الإيراني لعبت دوراً هاماً في إغراء الغرب الرأسمالي اللاهث خلف الفرص التجارية والاقتصادية، أينما كانت، بما يدفعه إلى تطبيع العلاقات السياسية والديبلوماسية والذي شهدنا أحد فصوله في افتتاح سفارة بريطانيا في طهران قبل أسابيع.

وعلى ما يبدو، فإنّ إيران تحيط نفسها علماً بنقاط ضعف الغرب على المستوى الاقتصادي من أجل انتزاع مكاسب مقابلة منه، سياسية في المقام الأول. فإلى جانب اختزان الأرض الإيرانية نحو 155 مليار برميل من النفط، ونحو 27 مليار متر مكعب من الغاز يمثل 18 في المئة من الاحتياطي العالمي الغازي، يتواتر الحديث، بين الفينة والأخرى، عن الأرصدة المالية المجمَّدة في الخارج والعائدة لإيران بقيمة تتجاوز الـ150 مليار دولار، كما أنّ سوقاً تضمّ حوالى 80 مليون شخص من شأنها أن تشحذ همم الاستثمارات الخارجية حتى تشدّ رحالها نحو بلاد صُنّفت يوماً، من قبل واشنطن، على أنها إحدى دول محور الشرّ، الأمر الذي يضفي في المحصلة بعداً اقتصادياً للمناخ السياسي الجديد.

اللافت، وفق دراسة نُشرت في مجلة «فورين أفيرز» في كانون الثاني 2014، هو التوقعات بأن يفوق استهلاك السعودية من النفط ما تصدِّره، على نحو يقلّص الميزة التي تتمتع بها كمصدِّر رئيسي للنفط، وهو وضع ربما يكون لصالح إيران، التي لا تزال سوق النفط فيها جاذبة بالنسبة إلى العديد من الشركات في الولايات المتحدة وأوروبا، وخصوصاً مع قدرتها على زيادة إنتاجها من النفط بعد رفع العقوبات، طبقاً لتقديرات شركة «توتال» الفرنسية.

وبالعودة إلى زيارة وزير المال البريطاني جورج أوزبورن إلى الصين، فهي تأتي في السياقات السالفة الذكر حول سياسات الغرب الذي يُظهر، علانية، حرصاً كبيراً على القيم الأخلاقية، فيما يضمر في نواياه اهتماماً أكبر بالقيمة المالية والاقتصادية. وقد عبّر أوزبورن عن رغبته بأن تصبح الصين ثاني أكبر شريك تجاري لبلاده بحلول عام 2025، في دلالة واضحة على محاولة استجرار الرساميل الصينية في اتجاه بريطانيا، علماً بأنّ سياسات بكين، سواء الخارجية منها، لا سيما في ما يتعلق ببحر الصين الجنوبي، أو الداخلية، بخصوص ما يتعلق بحرية الرأي والتعبير وقضايا أخرى، تشكل ذخيرة يومية لمواقف الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين الحادّة تجاه «العملاق الآسيوي».

أما عن أجواء زيارة أوزبورن، فقد أبدت إحدى الشركات الصينية التي تتخذ من منطقة شينجيانغ في الصين مقرّاً لها رغبتها في استثمار حوالى 90مليون دولار للبدء في ثلاثة مشروعات في المملكة المتحدة ستصل قيمتها الإجمالية إلى 1.2 مليار جنيه استرليني. وبحسب وزارة المالية البريطانية، فمن المتوقع أن تعزز تلك المشروعات التي تقودها «سكاربورو غروب» البريطانية جهود حكومة كاميرون لتحفيز التنمية في مناطق مختلفة من البلاد التي تراجع النمو فيها. وكانت حكومتا البلدين أعلنت قبل أيام قليلة عن مبادرات تتضمّن اتفاقية موسَّعة لمبادلة العملة واستثمارات صينية في المحطات النووية البريطانية ودراسة مشروع للربط بين سوقيْ الأسهم في لندن وشنغهاي.

وخلال لقائه نائبة رئيس مجلس الدولة الصيني ليو بان دونغ في لندن قبل نحو أسبوع، قال وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند «إنّ هذا العام يحمل أهمية في تاريخ العلاقات بين بريطانيا والصين»، مشيراً إلى زيارة الرئيس الصيني المرتقبة إلى العاصمة البريطانية الشهر المقبل، مؤكداً أهمية العمل على ما أسماه «مواصلة تعزيز الأفق الاستراتيجي للعلاقات البريطانية ـ الصينية، ودفع الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين بريطانيا والصين إلى مرحلة جديدة».

وصرّحت يان دونغ، من جهتها، بأنّ الصين «تأمل في أن تستطيع بريطانيا الاستمرار في تقديم إسهامات نشطة لمواصلة تنمية العلاقات الصينية ـ الأوروبية».

لا يمكن في أي حال من الأحوال، فصل الحدث البريطاني ـ الصيني عن نظيره بين بكين وباريس في العشرين من الشهر الحالي حين اتفقتا على تأسيس صندوق استثماري مشترك لدعم تمويل تعاونهما في بلدان أخرى، على أساس تطمح الشركات الفرنسية من خلاله للحصول على دعم القوة المالية في العالم، في مقابل ما يسعى إليه الصينيون من خبرات يملكها الفرنسيون على المستوى التجاري حول العالم، لا سيما في أفريقيا التي تحشد فيها الصين استثمارات مباشرة كبرى تقارب قيمتها 150 مليار دولار.

الخلاصة أنّ قوة الصين الاقتصادية وصعود إيران في سلّم التقدّم العلمي والتكنولوجي إلى جانب ما تمثلانه من سوق تزخر بالموارد الطبيعية والبشرية، هي من العوامل التي حدت بكبرياء الغرب أن ينحني أمام الصفقات المربحة معهما، ولا بأس إنْ ضحّى بالقليل من السياسة التي تبقى فنّ الممكن. فأيّ ممكن أفضل للغرب من التطبيع السياسي المربح مع كلّ من بكين وطهران عوض سياسات لا تلبث إلا أن تزيد الأعباء على عاتق المجتمعات الأوروبية، كما نلمس حالياً من أزمة اللاجئين السوريين إلى القارة العجوز؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى