روسيا أخفت حقائق لمصلحة الديبلوماسية

وقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام البرلمانيين والحكومة وحكام مناطق روسية. بالأحرى وقف الرئيس الروسي أمام العالم يتحدث عن مجمل الملفات، واضعاً النقاط على الحروف بما يتعلق بالأزمة مع تركيا لكنه كشف الكثير مما سيعتري هذه العلاقة. ويبدو أنّ السلطات في أنقرة فتحت على نفسها باباً من اللهب يبدو أنّ الوقت لا يخمده عند الروس بل يزيده تسعيراً.

لم تنفع محاولات العناية والحماية والاستعراض العسكري التركي قبل تسليم جثة الطيار إلى روسيا في التكفير عن ذنب اقترفته أيدٍ تجهل العقل الروسي، يقول بوتين في خطابه إنّ نسبة تحمُّل روسيا لمسؤولياتها عالية جداً وإنّ المواطنين الروس يدركون مدى الخطر الإرهابي حولهم ويظهرون حبهم للوطن ويقينهم بأهمية الدفاع عنه. يريح بوتين أعداءه من مغبة التفكير بأية محاولة لقلب الرأي العام الداخلي ضدّه ويقطع عليهم أي أمل في ذلك، فشعبه واعٍ وها هو لم ينتفض أو يتحرك ضدّه بل يؤيده حتى النهاية.

يُذكِّر بوتين الناس بأنه يوماً ما وفي القرن العشرين لم تكن هناك رغبة لديه في التصدي لنمو الخطر الفاشي، ما أسفر عن وقوع عشرات ملايين الضحايا. ومن جديد نواجه خطراً لا بدّ من التصدي له، وبالتالي فإنّ بوتين غير مستعد أن يقدم روسيا وشعوب المنطقة على مذبح الإرهاب لمجرد التقليل من مخاطره أو لفتح باب تعامل معه قد يحميه من الأذى.

لا شك أنّ العلاقة التركية ـ الروسية تتأزم وبوتين يعرف جيداً من يسمح للإرهابيين بالمال ومن يقوم يصفقات تجارية ومن يجند إرهابيين، لكنه يُسمّي تركيا جهاراً ويعود إلى الماضي فيقول: «نعرف أنّ تركيا قدمت ملاجئ للمسلحين الإرهابيين الذي كانوا يحاربون في القوقاز».

المسألة معقدة وقد أعاد بوتين تذكير العالم بأنّ لنظام أردوغان، والنخبة الحاكمة، كما سماهم، باع طويل في الاستثمار مع الإرهاب وإننا، كروس، لا نبتدع كما تحاول أنقرة وواشنطن الإيحاء للعالم. لكنّ بوتين يكشف الأخطر ويؤكد أننا كنا مستعدين للتعامل مع تركيا في أكثر المسائل حساسية. فقط الله يعلم لماذا فعلوا ذلك وعلى الأرجح أخذ الله قراراً بمعاقبة النخبة الحاكمة في تركيا فسحب منها العقل.

في الواقع، إنّ الكلام الروسي في الخطاب الهام يحمل جوانب عدة يمكن بقراءتها تقديم العذر لروسيا التي تعمل على حماية مصالحها مثلها مثل أي دولة، فالوثائق والفيديوات التي كانت بحوزتها عن أردوغان وفريقه المؤلف من ابنه وصهره وعن الصهاريج التي تدخل تركيا وعن كلّ الملفات الباقية هي وثائق محضرة وجاهزة تابعتها الاستخبارات لكنها لم تودّ الإفصاح عنها، ما يعني أنّ روسيا لم تكن حتى تنوي أن تؤسس لعداء مع تركيا بل كانت تريد استمالتها للتراجع عن الخطأ وكانت روسيا مستعدة لإخفاء الحقائق لمصلحة الديبلوماسية وسير العملية السياسية وهذا يدلّ على أنها كانت ترى في أردوغان يوماً ما صديقاً قد يتراجع عن الخطأ الفادح. لقد تعاطت روسيا بشكل ودّي جداً عندما قدمت للروس أردوغان، كزعيم إسلامي، لدى افتتاح مسجد موسكو الكبير مؤخراً…لقد عاد بوتين وردّد اليوم أنه طُعن في الظهر.

يتلذّذ أردوغان بالغدر. هكذا تحكي تجربته مع حلفاء الرئيس السوري بشار الأسد. هذا حصل مع الرئيس الأسد نفسه وبعده السيد حسن نصرالله واليوم الرئيس بوتين ومن غير المستبعد أن يتعاطى مع إيران مستقبلاً بهذا التوجه. وعلى هذا الأساس ينهي بوتين مرحلة من التسامح كان قد أطال عمرها ومنحها كلّ أمل بأن تؤسِّس لسلام مقبل على المنطقة وسورية حتى نفذ صبر روسيا.

ينهي بوتين سنوات من الديبلوماسية ويُعلي سقف الخطاب الخالي من أي فسحة تعيد تركيا، إن عادت مستقبلاً، ذلك الشريك في أي مشروع كندٍّ، بل تحجمها أمام القوة العظمى الاقتصادية والسياسية لروسيا واضعة الأمور في نصابها الصحيح.

نعم … لقد أخفت روسيا حقائق من أجل السياسة ومن أجل الديبلوماسية ومن أجل الحوار لكنها أمام السيادة نسفت كلّ ذلك، عسى أن يتعلم العرب المصفقون والغرب المستضعفون، وخصوصاً الجزء الأوروبي منهم من قبل الأميركيين درساً روسياً في احترام السيادة والكرامة وحفظ المهابة وتحديد المكانة.

«توب نيوز»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى