مقالات وآراء

بين عامية ساحة الشهداء 
وعامية انطلياس…

} د. أديب راشد*

على اثر الأزمات المتلاحقة التي حصلت في لبنان: أزمات بنزين، ارتفاع سعر الدولار، الحرائق، ضرائب على المواطنينهذا بالإضافة إلى الوعي الشعبي عن سرقة المسؤولين المال العام منذ 1975 وحتى يومنا هذا، انتفض المواطنون وتوجهوا تلقائياً إلى ساحة الشهداء.

بتاريخ 17/10/2019، اكتمل مشهد الحشود البشرية في ساحة الشهداء وتخطى حدود المطلب الأساسي «لا حزبية ولا فساد ولا تجارة في الأديان»، ليأخذ شكل عامية جديدة على غرار «عامية انطلياس». فشكل حدثاً تاريخياً أعاد طرح الأزمة اللبنانية إلى الواجهة من ضمن الصراع الإقليمي والدولي في الشرق الأوسط.

هذه الأزمة أثارت حفيظة الوجدان التاريخي بكلّ أبعاده المجتمعية والسياسية والدينية. فهذه الأبعاد تؤلف «الحقل الاختباري» للعبور من الحاضر إلى التاريخ، والإطار العملي للمعرفة التاريخية في إعادة البحث بحدث مماثل في التاريخ ألا وهو عامية انطلياس. وبعد أخذ العبر والدرس، العودة إلى الحاضر.

تثار المسألة المنهجية في أيّ بحث تاريخي انطلاقاً من ثنائية التأريخ كما طرحها ابن خلدون في مقدّمته. فبين «الخبر» و«العلم» تكمن المفارقة الأساسية عند تناول «الاجتماع الإنساني» بالبحث. وتزداد المفارقة حدّة بقدر ما يظهر هذا الاجتماع من غنى وتنوّع وتقطع واستمرارية على صعيد الأفراد والجماعات، تبعاً لظروف المكان والزمان.

ولا يخرج المؤرّخ، كمدوّن الأخبار، عن تلك الظروف إلا بقدر ما يرتقي في بحثه من «على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول»، إلى «العلم بكيفيات الوقايع وأسبابها»1، أيّ من الرواية إلى المعرفة والدراية.

فالأزمة اللبنانية كحدث تاريخي، هي موقف كلي من الواقع يتناول الإنسان والمجتمع والوطن والتاريخ، ويتميّز بموقف من الماضي وبإرادة التغيير في الحاضر وبالتطلع إلى المستقبل.

رأى طنوس الشدياق في عامية 1840 «بدعة»، قام بها «بعض جهلة» أخذهم «الهوس»، «وهاجوا وقاموا على النظام المصري». وبالرغم من نصح بعض «الأمراء لهم ليعودوا عن هذا الجهل فيرضيهم» الأمير، فإنّ العامة «لم ينثنوا عن عزمهم ومطاولتهم، وذلك لنفور قلوبهم من الدولة المصرية التي أحدثت عليهم زيادة الأموال والسخرة وشغل المعدن الفحمي في قرنايل ونكثها معهم باسترجاع السلاح2».

يقوّم الشدياق عامية 1840 على أساس الأبعاد التي تحملها وليس بالنسبة للأسباب التي دفعت إليها. فتطاول العامة يخرج على التراتب التاريخي في البنية الاجتماعية، ويحمل في طبيعته تحوّلات غير مألوفة من شانها أن تبدّل في التراث وتجعل بالتالي، من الفعاليات البشرية دافعاً لتغيير مسار الحركة التاريخية الذي يقوم أساساً على أهمية الأعيان في ضبط تلك الفعاليات والسيطرة عليها انسجاماً مع التقليد التاريخي. لذلك، فهو بوصفه العامة بـ «الجهلة» وباتهامهم بـ «الهوس» وخروجهم على إرادة الأعيان، يجعل من الحفاظ على البنية الاجتماعية غاية الحركة التاريخية، وبالتالي فـ «التطاول» هو من المستجدات التي تتنافى مع تلك الغاية.

فالإعلان الإيديولوجي بتأكيده على حضور الماضي في وجدان الجماعات، عبّر عن واقع نزاعي يحمل في ذاته كلّ معالم صيغة التعايش وشروط الاجتماع السياسي. فالتجارب التي عاشها مجتمع الجبل من خلال عوامل التحوّل والتغيير، انتهت إلى:

أأنّ تاريخية الجماعات أو الطوائف في المجتمعات المركبة، هي مرتكز أساس في كينونة هذه الجماعات واستمراريتها وفي لقائها مع الآخرين.

بأنّ اجتماعية الطوائف هي شأن ذاتي يظلّ بمنأى عن المستجدات الحضارية أو المتغيّرات الثقافية التي تؤثر في الشكل دون أن تمسّ في الجوهر.

جأنّ انتظام الجماعات في دولة وحدوية مركزية أو مركبة، مشروط بممارسة السلطة أو المشاركة الفعلية فيها، وعلى مختلف درجات المسؤولية. فالسلطة في هذا المجال ليست إرادة فوقية، ولا هي حق شعبي لا هوية له. إنما السلطة معطى تاريخيمجتمعي تتمتع بها الجماعات وتمارسها قبل نشوء الدولة. والتنازل عن السلطة لصالح جماعات أخرى أو أكثرية معينة، يعني التنكر للذات التاريخية والتخلي عن خصوصيات هي علة وجود الجماعات وتمايزها، وان استغلت تلك الخصوصيات لمآرب معينة على الصعيد السياسي.

دأنّ التحوّلات وعوامل التغيير يمكن أن تبدّل في معالم المجتمع الحضارية، إلا أنها لا تقضي على خصوصيات الجماعات المتعايشة؛ كما أنها لا تنفي تاريخيتها لتبدّل في شروط اجتماعيتها. لا بل إنّ وسائل التنمية الثقافية تزيد في وعي الجماعات لذاتها، بقدر ما يؤدّي التفاوت في عملية التنمية الاقتصادية إلى الشعور بالغبن، ما يدفع إلى التطلع إلى السلطة، أو على الأقلّ، المشاركة الفعلية فيها.

هـوبالتالي، فإنّ مبدأ الدولة كسلطة فوقية، أمر مستحدث في وجدان الطوائف، يحمل بذاته تناقضاً مع الوجدان التاريخي، ويجعل من حضور الماضي غربة تشدّ الجماعات إلى التمرّد والثورة من أجل استرداد الماضي أو تكييف الحاضر مع معطيات هذا الماضي. لذلك، غالباً ما تتنازع الجماعات إبان الأزمات، التاريخ من حيث هو مصدر وجودها ولتأكيد حقها في الاستقلالية.

والبحث الموضوعي في معطيات الأزمة اللبنانية يبيّن لنا أنّ الأزمة تدرّجت من مطالب آنية إلى إعلان أيديولوجي تناول تاريخية الوطن اللبناني انطلاقاً من ثنائية تركيبته المجتمعية. وقد خطى هذا الإعلان الوضع الراهن بكلّ مشاكله، وتغاضى عن وجود الدولة أرضاً ومؤسسات، ليعيد المسألة اللبنانية إلى حدود الطوائف بكلّ أبعادها التاريخية والأيديولوجية.

فمقياس تاريخية الوطن ليست عندئذ في الشكل القانوني الدولي لهذا الوطن، ولا هي في وحدة أرضه وشعبه، كما أنها ليست في النظام السياسي ومؤسّساته، إنما مقياس تاريخية الوطن هي في مدى انسجام الماضي مع ذاتية الطوائف وتحقيق تطلعاتها المرحلية. وعلى هذا الأساس يصنّف الماضي وينعت لبنان بـ «القديم» و«الحديث» و«الثابت». فلبنان القديم هو ما قبل الاستقلالولبنان الحديث هو لبنان العربي الوجه والدم واللسان الذي عرفناه مع الاستقلال وما زلنا نعرفه هكذا حتى الآن، ولا نريد أن نعرفه إلا هكذا على مدى الأزمان3».

أما لبنان «الثابت» فهو لبنان «العصور الذي يأبى أن يدمج بأيّ كيان آخر، أن ينعت بغير ذاته، وهو، بالتالي، دولة مستقلة سيدة حرةلبنان في جوهر كيانه، متأصّل في الحضارة الإنسانية الواحدة. لذلك يرفض كلّ محاولة ترمي إلى اقتلاع جذوره العريقة في هذه الحضارة، وهو يتصدّى لها، وما وجوده التاريخي المتواصل إلا تعبير عن ثباته في هذا الإباء والتصدي4».

بتاريخ 17 تشرين الأول سنة 2017، تداعى اللبنانيون من مختلف الفئات والطوائف إلى اجتماع عام أو عامية جديدة في ساحة الشهداء للتعبير وطرح جملة مطالب يقتضي على السلطة اللبنانية تحقيقها.

اكتمل مشهد الحشود البشرية فأصبح حدثاً تاريخياً أعاد طرح الأزمة اللبنانية إلى الواجهة من ضمن الصراع الدولي والإقليمي في «الشرق الأوسط».

*عميد متقاعد

هوامش

1 – ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي (المتوفى: 808هـ)، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، تحقيق خليل شحادة، الطبعة: الثانية، دار الفكر، بيروت، 1408هـ/1988م، ص 6.

2 – طنوس الشدياق، أخبار الأعيان في جبل لبنان، نظر فيه ووضع مقدمته وفهارسه د. فؤاد أفرام البستاني، الجامعة اللبنانية، طبع بالمطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1970م، ج2، ص 458-459.

3 – راجع جان شرف، صيغة التعايش الدستوري في لبنان، حاليات، 8 ( 1984) 33، ص 40-414 – راجع جان شرف، صيغة التعايش الدستوري في لبنان، حاليات، 8( 1984) 33، ص 40-41

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى