الوطن

لماذا يقلصُ الأميركيّون قواعدهم العسكرية في العراق؟

} د. وفيق إبراهيم

يحظى العراق بأهمية قصوى في الجيوبوليتيك الأميركي الذي ربط بين احتلاله لهذا البلد في 2003 وبين امكانية ادارة كامل الشرق منه.

هذا ما يثير الاستغراب في بدء الأميركيين حالياً بالتخلي عن مواقع وقواعد لهم في المدى العراقي من حدوده عند كل من صحراء الأنبار مع السعودية وإيران وتركيا وسورية والكويت.

يكفي ان منطقة الاكراد في كردستان العراق تُلبي رغبة الأميركيين في التدخل من ثلاث دول اخرى هي ايران وسورية وتركيا تحتوي على مناطق كردية واسعة ومتصلة رغبة بتشكيل بنى سياسية تعبر عن تمايزها القومي المستقل.

بالاضافة الى هذه الأهميات الاستراتيجية يمكن الاعتماد على النفط العراقي الغزير مع امكانية وجود آبار غاز واعدة كوسائل اساسية تجذب الأميركي الى العراق وتجعله لا يفكر بمغادرته إلا لأسباب قاهرة.

فهل تشكلت هذه الاسباب حتى يسارع الأميركيون الى إعادة تموضع مريبة تعيد تجميع قواهم في مراكز كبيرة محمية بصواريخ الباتريوت وتنتشر حول بغداد والطرق التي تربطها بسورية وصولاً الى اربيل وكركوك ومشارف كردستان.

لقد انتقى الأميركيون مراكز تجميع قواتهم في مناطق تضمّ قوى سياسية عراقية موالية لهم خصوصاً في الوسط وكردستان مبتعدين عن مراكز الحشد الشعبي والحدود الإيرانية.

بما يؤشر كما اعتقد كثيرون من القوى السياسية ان الأميركيين يحضرون لهجوم مباغت على بعض قوى الحشد الشعبي المرتبطة بإيران، خصوصاً بعد الفشل المتوقع لحليفهم رئيس الحكومة المكلف الزرفي في تشكيل حكومة جديدة.

هناك اذاً تزامن بين استمرار حالة الفراغ الدستوري في العراق مع تصاعد التوتر من قبل الحشد الشعبي وحليفته إيران مع الأميركيين وانتشار جائحة الكورونا عالمياً وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية التي ادركت نسبة الإصابات فيها نحو مئتي الف مصاب وعدة آلاف من القتلى.

كما تتواكب مع مشروع انهيار اقتصادي أميركي نتيجة للشلل الكبير في التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية، والإنفاق الكبير للدولة على وسائل التعقيم والعلاج وحماية مئات ملايين الأميركيين ومباشرتها دفع رواتب شهرية لذوي الدخل المحدود وصغار الموظفين.

بالمقابل فإن الكورونا أدركت العراق، لكنها لم تضربه كما فعلت في أوروبا والصين وأميركا. وبقيت الإصابات بين أهله محمولة ومعتدلة.

ما يمنع وصفه بالجائحة في بلاد الرافدين مع الحرص العام هناك على مكافحته الشديدة.

لقد انتقلت كل هذه العناصر مع شبح الانتخابات الرئاسية الأميركية التي تخيّم على صدّ الرئيس الأميركي ترامب الراغب بالتجديد لولاية ثانية، ولا يفصله عنها إلا بضعة اشهر، هذا اذا سمحت اوضاع انتشار الكورونا بتنظيمها او بإرجائها وهذا ما يحلم به ترامب، لأن فريق عمله في الحزب الجمهوري وادارة البيت الأبيض يعتقدون أن تأجيلها يسمح لترامب بالاستمرار في الرئاسة كما حدث مع الرئيس فراكلين روزفلت الذي استمر في الرئاسة الأميركية بعد تأجيل الانتخابات بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، فحكم آنذاك ولاية إضافية كاملة بتبريرات قانونية ومن دون اي إنهاك انتخابي.

يبدو أن هذا الاحتمال يسكن عقل ترامب محتلاً عواطفه وسامحاً له بالمراهنة على انتشار كورونا أميركياً وعالمياً بما يؤدي الى منع اجراء اي انتخابات.

الا يفسر هذا الاحتمال أسباب تلكؤ ادارة ترامب في التصدي لكورونا وتصويره على انه وباء صيني من ووهان المنطقة المنكوبة، وسانده في اتهاماته وزير خارجيته بومبيو الى ان اكتشف الرجلان معاً ان الاصابات في بلادهما فاقت ما حدث في الصين بمرات عدة.

هناك اشارة أخرى تكشف احلام ترامب «الاسترئاسية» فبعد صمت أميركي متواطئ مع رفع السعوديين إنتاجهم النفطي من تسعة ملايين برميل نفط يومياً الى ثلاثة عشر مليوناً ما ادى الى انهيار اسعار البرميل من 45 دولاراً الى 23 حالياً، عاد الأميركيون ليتوسّطوا بين الروس والسعوديين للعودة الى حصصهم الإنتاجية السابقة من أجل العودة الى السعر المرتفع.

إن تفسير هذا الانقلاب الأميركي على السعودية يعود الى ان الإدارة الأميركية أدارت قبل ان ينتشر كورونا خفض اسعار النفط لكسب اصوات الطبقات الشعبية الأميركية بوقود رخيص الكلفة وبما أن الاتجاه الأكبر حالياً هو لتأجيل الانتخابات فإن إدارة ترامب تريد معاودة كسب الرأسمالية الأميركية من صناعيين وشركات النفط الصخري واصحاب عقارات، يمثلون القوة الاساسية في صناعة القرارات المركزية في الولايات المتحدة وهذه الفئات لا تريد تحطيم صناعة النفط الصخري الأميركي الذي تزيد كلفة البرميل الواحد منه عن 45 دولاراً.

وهذا يفسّر بوضوح عودة مجموعة ترامب للقرارات الكبرى بالسعي الحثيث لإيجاد حوار روسيسعودي يؤدي الى إعادة إحياء الاسعار القديمة المرتفعة للبترول ومشتقاته.

الى ماذا تقود هذه المطالعة عراقياً؟

ليس من مصلحة ترامب تنظيم حرب قبل مرحلة الإعلان عن إرجاء الانتخابات الرئاسية في بلاده. بالاضافة الى ان سكوته عن اي هجمات على جنود أميركيين في قواعدهم المنتشرة في العراق من شأنه تحطيمه شعبياً في بلاده وتراجع أسهمه في الرئاسة التلقائية التي يحلم بها، فترامب يعرف ايضاً ان اغتيال إدارته للقائدين الايراني قاسم سليماني والعراقي ابو ماجد المهندس ليس عملاً عادياً لأن مؤسساتهما في بلديهما تعمل على «ثأر عسكري» ببعد سياسي يزلزل الأرض تحد أقدام الأميركيين في العراق.

لذلك يربط الأميركيون بين إصرار الحشد الشعبي على رحيل القوات الأميركية من العراق وبين «الثأر السياسي» الذي كان يريد دائماً توفر الظروف الموضوعية لطرد الأميركيين، ويبدو انه لاحظ تشكلها عاملاً على دفعهم الى الرحيل بأسرع فرصة.

وهذا ما يعرفه الأميركيون الذين لا يريدون الرحيل ويخشون من عمليات عسكرية وشعبية ضدهم.

فقاموا بإعادة تجميع قواتهم للتخفيف من أي خسائر محتملة على أن يعاودوا نشرها في مراحل افضل، لكنهم يحتفظون بقواعدهم العسكرية في بقية القواعد متمسكين بحلفائهم السياسيين.  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى