ثقافة وفنون

إيلي الفرزليّ في كتاب: قد لا يكون أجمل التاريخ غداً!

ناصر قنديل

أن يكتب سياسيٌ منغمسٌ في الاستنفاد اليومي لنفسه حتى الثمالة، بين العمل الروتيني المرهق للزعامة الشعبية، والمثابرة على ابتكار الأدوار التي تبقيه في قلب الحضور في مشهد سياسي تتقاسمه قوى لبنانية وإقليمية ودولية كبرى، وهو مسكون بهواجس بيئته المباشرة فالأوسع والأوسع وبترجمة أفكاره ورؤاه، ذلك وحده يستحقّ التحية، فكيف عندما يجد جهداً ووقتاً، ليضع نفسه والحقب التي عايشها والأحداث التي رافقها أو ساهم في صنعها، في كتاب من الحجم الكبير، ويكون الوقت والجهد المبذولان كافيين للإقناع بالجدية بصورة مبهرة، ولانتزاع الإعجاب من حيث التوثيق والأرشفة والتسلسل، وأن يمتلك الشجاعة في خوض غمار محطات يعتقد الكثيرون أنها تثير الحرج، وأن يستطيع الإقناع بنسبة كبيرة من روايته لها، فذلك يستحقّ من موقع الهم الثقافي والتأريخي والتحليلي لتعميق فهم الوقائع اللبنانية وسياقاتها ورسم بعض الاستنتاجات الجديرة بالنقاش من خلالها، الشهادة لصاحب العمل بالتفرد والتميز وحجز موقع مختلف نادر بين السياسيين.

سينشغل الكثيرون ممن قرأوا الكتاب أو تصفّحوه بحثاً عمّا يخصهم، أو عما يصلح للإثارة في مناقشته، بالشقّ الخاص من السرديّة الفرزلية لمراحل ترافق فيها اسم الكاتب مع الدور السوري في لبنان، بحثاً عن صدق الرواية، أو مدى دقّتها، أو درجة حفظ أدوار الآخرين فيها، أو الدرجة التجميليّة لدور الراوي، أو أكثر من ذلك بالنسبة لمن كانوا خارج هذه الصورة، بحثاً عما يعتبرونه مواد تثير السجال حول تلك الحقبة ولو بطريقة فضائحيّة تحت شعار شهد شاهد من أهله، وربما تحفل الصالونات السياسية وليس صفحات الصحف والمواقع، بروايات أخرى أو أوسع أو رديفة لرواية الكاتب، لكن ستبقى عملياً روايته هي الوحيدة الموثّقة، والتي ستفوز لاحقاً بصفتها المرجع الأهم لتوثيق ما جرى في تلك الأيام، وسيكون سهلاً على الكاتب عندما يصله ما يُقال عن إغفاله أحداثاً كبرى غاب عنها أو غابت عن روايته، وقضايا كبرى يتهم بتجاهلها، أو أدواراً ربما كانت أشدّ أهمية من دوره في بلورة قرارات مصيرية، وترشيحات رئاسية، أن يرد وسيكون قادراً على القول براحة، لقد قدّمت روايتي لما شهدت وما حدث معي وأمامي، ونقلت انطباعاتي واستنتاجاتي، وما وثّقته ينحصر بما شهدته، ولست في موقع ادعاء توثيق الحياة السياسية اللبنانية، ولا الشق المسيحيّ منها، ولا العلاقات اللبنانية السورية، ولا علاقة لبنان بالمعارك الإقليميّة، إلا بالقدر الذي يتصل بحيث كنت موجوداً وحاضراً ومشاركاً، من دون أن يعني هذا إغفال هذه الملاحظات التي تملك حق التعديل كثيراً، والإضافات أكثر، وربما الدحض في بعض الأحيان.

أعفاني الصديق إيلي الفرزلي من الحرج مرتين، مرة لأنني لم أتلقّ كتابه هدية أسوة بما فعل مع عدد من الأصدقاء والكتاب، ومرة لأنه لم يرد على ذكري في الكتاب، لأنه إن فعل وذكرني بالخير ستقرأ إشاراتي الإيجابية كرد جميل، وإن ذكرني بالسوء سينظر لانتقاداتي كفعل انتقام، ولذلك سأكون موضوعياً بقدر المستطاع، متحرراً من الأنا في التعليق على كتاب من ثمانماية صفحة قرأته على مدى ليلتين، مستمتعاً بالسرد وبالتوثيق أكثر وبالهوامش الدلالية أكثر وأكثر، ومعجباً بالحذاقة والفهارس وأناقة السرد واللغة.

سأبتعد عما أتركه للآخرين أن يهتموا به، وسأحصر اهتمامي بالبعد السياسي في الكتاب، الذي أتاح لي الخروج بأهمية النقاش مع الكتاب والكاتب، وعنهما، حول عنوانين، واحد فرزلي، وثاني لبناني، فالكتاب الذي كان موفقاً بعنوان جميل ومثير، هو هذا الاقتباس الزحلي من شعر سعيد عقل الذي غنته فيروز، أجمل التاريخ كان غداً، يطرح السؤال على المستويين، الفرزلي واللبناني، هل فعلاً أن أجمل التاريخ سيكون غداً؟

في الشقّ الفرزلي يخوض الكاتب ويشاركه الكتاب بقوة، معركة يفوزان بها، وهي معركة غسل أدمغة مبرمجة للقارئ الذي عاش زمناً من الانطباع عنوانه، أن إيلي الفرزلي هو شاب حاذق مغمور حوّله السوريون إلى لاعب سياسي، ليحمل الرسائل ويسوّق المشاريع، ويتولى أحياناً تركيب المناورات والإخراج للقضايا والملفات، فيتدفق الكاتب وتتدحرج صفحات الكتاب لتستولي على القارئ بسردية يصير شريكاً فيها، مستمتعاً بالمعلومات الغنية والتفاصيل المشوقة عن التاريخ والجغرافيا، في منطقة البقاع الغربي وزحلة، التي ينهض الفرزلي بالسعي لإثبات مشروعية زعامته لمسيحييها، فجدّه الطبيب الذي كان منذ مطلع القرن الماضي أحد رموز الحركة الاستقلالية والنهضة القومية العربية، الدكتور ملحم الفرزلي، هو سكرتير المؤتمر الذي ضمّ قيادات تلك الحركة، وهو واحد من أركانها إلى جانب أسماء مثل عمر بيهم وعبد الحميد كرامي وفارس الخوري وآخرين، مناضل ومثقف وصاحب رأي، مترفع عن المكاسب والمناصب، عصامي صاحب قضية يقاتل لأجل أفكاره بعناد ولو كان الثمن فوق قدرته على الإحتمال، والعم أديب الفرزلي هو نائب رئيس مجلس النواب لزمن غير قصير وخطيب مفوّه وسياسي محنك، وأحد أبرز رموز برلمان الخمسينيات، وهو رفيق كمال جنبلاط وريمون إدة، كإصلاحي مع الثاني وكعروبي وإصلاحي مع الأول، وهو إبن إبيه في عصاميته وشجاعته وتحمله للخسارة، والوالد نجيب محامٍ مقاتل لتثبيت مكانة العائلة في المشهد السياسي البقاعي إلى جانب أخيه، وتحت عباءة والدهما، وإيلي الفرزلي ليس إلا الخلف لهذا السلف، المجدد للدور والمستعيد للمكانة.

يستمتع الكاتب وينتشي الكتاب بزهو الانتقال إلى مرحلة ثانية من المعارك، فقد اكتفيا معاً من هذا التثبيت للجذور التي تلاقت في حراكها نحو الحياة مع معارك زحلة، وإعادة اكتشاف وجهتها الأصلية في الجمع بين الدور السياسي المسيحي والبقاعي والتطلعات القومية، فتلاقت في منتصف الطريق مع دور سوري كانت تبحث عنه ويبحث عنها، ورغم صعوبة التصديق، لتفاوت الأحجام والأدوار والإمكانات بين شخص أعزل بلا عائلة كبرى تؤازره ولا حزب قوي يسنده، وبين دولة بقوة حضور سورية في تلك المرحلة من حياة لبنان والبقاع، في الثمانينيات من القرن الماضي، فالقارئ سيتعاطف مع الكاتب والكتاب، ليميل للتصديق، منعاً لظلم الرواية المعاكسة، ويصير الانتقال ممكناً لمعركة المكانة الزحلية والبقاعية، فسياق الكتاب رغم كونه رواية لوقائع، وسردية أحداث بتسلسل سلس وتوثيق مقنع، يخوض بوعي الكاتب أو بعفوية السياق، معركة إثبات ظرفية صعود زعامتين زحليتين ظهر إيلي الفرزلي كأنه مولود ناشئ في كنف رسوخهما، هما جوزف سكاف والياس الهراوي، وينجح الكتاب في الإثبات التاريخي للجذور العريقة للفرزلي، والحضور المستحدث للزعيمين اللذين غاب إرثهما اليوم عن الساحة، تأكيداً للسردية الفرزلية، التي تضع القارئ أمام مشروع ضمني ينبض به الكتاب، عنوانه الزعامة الفرزلية لمسيحيي البقاع، هي الأثبت والأكثر جدارة وأهلية، فهي لم ترحل مع رحيل السوريين، وهي لم تسقط مع حضور الأحزاب المسيحية الكبرى، ولم تأكلها العصبيات الإسلامية الطاغية، فمرت بين ثقوب الغربال، وصمدت وتتمدّد.

الأكيد أنه رغم هذا النجاح في السرديّة، ورغم الإغفال غير المتعمّد لحجم دور رئيس مجلس النواب نبيه بري، في تقديم دور الحاضنة لمكانة الفرزلي بعد الغياب السوري، والكفاءات التي يتمتع بها والتي أهّلته وتؤهله لصداقة قائمة على الاحترام مع كل من حزب الله والتيار الوطني الحر، رغم مساحات الخصوصية والاستقلال التي يحتفظ بها الفرزلي لحركته ومبادراته، فإن الخلاصة ستبقى أن زعامة الفرزلي اليوم هي الحاضرة أمام البقاعيين، وقد غابت عائلات تقليدية وثبت ضعف الأحزاب المسيحية، وتأكدت حاجة القوى الإسلامية، لما تمثل هذه الخصوصية الفرزلية، الملتزمة بالوحدة الوطنية رغم مسيحيتها المفرطة أحياناً، والملتزمة بالعروبة رغم لبنانيتها المغالية أحياناً، والقائمة على حيثية شعبية تغذيها مكانة مرجعيّة حاضرة بين الناس ومروحة من الاهتمام اليومي الذي يبذل فيه الفرزلي وقتاً وجهداً لا يقدر عليهما أغلب السياسيين.

يضع الفرزلي لهذا الشق من المهمة التي يؤديها الكتاب بكفاءة عالية، الإطار السياسي لتوصيف قناعاته ومشروعه السياسي، من دون أن يقول ذلك وربما من دون أن يقصد ذلك في هذا المكان من الكتاب، عندما يصف حال جدّه ملحم وعمه أديب، فيقول «لا الأب كان يستطيع أن يكون إسلامياً في الإطار القومي ولا الإبن كان يستطيع أن يكون مارونياً في الإطار الكياني اللبناني»، ورغم الجهد الذي بذله ولا يزال إيلي الفرزلي على الجبهة الإسلامية لتأكيد قوميته مصراً على عمقها المسيحي المشرقي، وعلى الجبهة المارونية الكنسية والسياسية لصياغة لبنانيتة بخلفية مسيحية متمسكاً بتثبيت أنها ذات نكهة أرثوذكسية، فالكتاب في قسمه اللبناني اعتراف بالفشل، فشل لبناني شامل على الجبهتين الإسلامية والمسيحية، حيث الحيرة تنهش اللبنانيين بحثاً عن صيغة لوطنهم بين متغيرات وتحولات لا ترحم في الإقليم وعلى مساحة المنطقة، وفي ظل سقوط صيغة نظامهم الذي ينجح بتوليد الأزمات ويفشل في صناعة الحلول، فالتمديد الدستوري يقابله الفراغ الدستوري، فراغ رئاسي وفراغ حكومي وفراغ نيابي، وتمديد رئاسي وتمديد نيابي، هي تعبيرات الفشل والعجز عن استيلاد البديل الذي يحظى بقدر من الإجماع يؤهله للحياة.

يقدم الكتاب لهاث الكاتب وراء البحث عن هذه الصيغة، وسعيه الدؤوب لاستيلاد ما هو مبتكر، ويجد مع ثلاثة رؤساء الأمل والخيبة، ومع مشاريع حوارات لا تنتهي، سعى إليها لتستقيم العلاقة بين سورية والكنيسة ويفشل، ومع مشروع لقانون الانتخابات حمل اسمه ظنّ فيه ضالته ونظَر له وحاور حوله مئات الشخصيات ولمئات الساعات، وسعى وانتهى الأمر بالمراوحة في المربع الأول.

ينجح الفرزلي بوصف المقدمة التي يجب أن ينطلق منها البحث، وهي ما وصف به زحلة المدينة الأحب إلى قلبه والتي لا ينفضح بسهوله تطلعه لزعامتها، فيقول إنها «مدينة حائرة ليست من الساحل ولا من الجبل وكانت وما زالت مدينة حدودية، والمدن الحدودية حائرة بطبيعتها، تتنازعها المصالح والعواطف، قلبها في مكان وعقلها في مكان آخر، ظهرها إلى الساحل وإلى الجبل، ووجهها إلى الشام وما بعد الشام، وجهها لا يأمن لظهرها وظهرها لا يأمن لوجهها».

في الواقع كان الفرزلي يصف لبنان، أكثر مما يصف زحلة، فلبنان العميق سياسياً غربي الهوى، ولبنان الواقع صناعة عربية هشة، والمسيحيون في لبنان تاريخهم عربي وحاضرهم حائر، والمسلمون الذين كانوا في حال إجماع على العروبة بمفهومها النضالي نحو فلسطين وبوجه مشاريع الغرب الاستعماري، توزعت ريحهم، فقسمتهم المذهبيات وصعدت بينهم العصبيات، وبقيت منهم المقاومة التي تتشكل في غير البيئة التقليدية للمسلمين العرب الذين ينتمون للمذهب السني، وهي متهمة بشيعيتها وعلاقتها بإيران والسببان كافيان لإعلانها عدواً للعروبة التقليدية التي بات عنوانها الطاغي صناعة خليجية، والخليج يجاهر بجنوحه نحو نهاية الزمن الفلسطيني، بينما سورية التي شكلت الكتف التي يمكن أن تتكئ عليه أي لبنانية عربية حديثة، فهي أكثر من انشغالها بأزماتها، تعلمت درسها اللبناني جيداً وقررت بوطنية سورية جديدة صاعدة، عروبة مختلفة عن التي عرفها الفرزلي وتحدث عنها، وليست جاهزة لتقديم المساعدة.

اللبنانيون بعد نصف قرن من العناء الفرزلي لتثبيت الزعامة وانتزاع الشرعية والمشروعية، يعيشون محنة بلدهم الذي يحتاج لإعادة التأسيس كي يتسع لمشاريع زعامات، وفي ظل ضائقة اقتصادية خانقة وأزمة مالية أقرب للجائحة، يحتاج شخص مخضرم ومثابر ومؤمن بالمضي قدماً، والانطلاق مجدداً من البدايات، عملاً بنصيحة جده لعمه وأبيه عندما خسروا جميعاً الانتخابات، بـ «أن البلاد كلها ليست بخير، إن نجاحنا هو عنوان صحة البلاد وسقوطنا عنوان اعتلالها، لأن ليس لنا من الدنيا سوى خدمة البلاد والعباد». والبلاد ليست بخير، واعتلالها لا يخلصها منه استنساخ يرغبه الفرزلي دائما لنموذج الحل الزحلي، لم يعد ممكناً ولا وارداً، حيث المعادلة أمن توفره سورية، وسياسة يصنعها أبناء المدينة، والقانون الأرثوذكسي انتهت صلاحيته ولو كمشروع لرفع السقوف التفاوضيّة، فالمجلس النيابي الذي يباهي به أصحاب القانون الأخير، حقق ما كان يطمح إليه الفرزلي وكثير من القيادات المسيحية، بوقف استنخاب كتلة وازنة من النواب المسيحيين بأصوات المسلمين، والرئيس الأوسع تمثيلاً بين المسيحيين في سدة الرئاسة، والفرزلي لم يتم إسقاطه في الانتخابات، ورغم ذلك البلاد ليست بخير وحجم اعتلالها أكبر من أي مرة مضت، وهي تسير على صفيح ساخن فتزداد حيرة، والبداية الجديدة المطلوبة تحتاج إلى ابتكار وشجاعة لصياغة عقد إجتماعي من قلب الدستور والطائف غير مؤقت وغير مرحلي وقادر على الجواب عن أسئلة الوطنية اللبنانية الأساسية، وتطلق مشروع دولة حقيقية، بقدر من التعقل غير الثوري، والشجاعة الثورية، ومن دون ذلك لن يكون أجمل التاريخ غداً، لا للفرزلي الذي بلغ مراده من تثبيت الزعامة، بينما البلد كله يتجه نحو السقوط، ولا للبلد الذي يعيش ذروة الاعتلال، وقد يكون أجمل التاريخ ما كان أمس على الصعيدين، ما لم يحدث شبه معجزة، يحتاج إلى عباقرة وقديسين لتكون، ويكون أجمل التاريخ غداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى