أخيرة

سيرة سلطان الأطرش مادة لتدريس الأجيال

} د. هاني سليمان

1 ـ صدر للدكتورة ريم منصور سلطان الأطرش المذكرات «الحقيقية لسلطان باشا الأطرش» عن دار «أبعاد». إنه جهد استثنائيّ بامتياز يصدر عن مناضلة عربية ويتحدّث عن الثورة السورية الكبرى سنة 1925 ليسلط الضوء على مرحلة مفصليّة من تاريخ أمتنا العربية في مطلع القرن العشرين، حيث الاستعمار الجديد يرث السلطنة العثمانية ويعيد تشكيل المنطقة وفقاً لمصالحه ومخططاته.

لقد جاء مشروع سايكس بيكو في تلك المرحلة لتقاسم المنطقة بين إنكلترا وفرنسا مترافقاً مع وعد بلفور الهادف لغرس الكيان الصهيوني في فلسطين، فراح السكين الغربي يعمل في جسد الأمة تمزيقاً وتوزيعاً واقتطاعاً.

2 ـ والعرب الذين لم يكفهم ما عانوه من جور السلطنة العثمانية وقعوا ضحية الخديعة القاتلة القائلة لهم «ثوروا معنا ضدّ السلطنة ولكم الحرية والاستقلال والدعم». فإذا بالاستعمار الجديد أشدّ خبثاً من القديم وأكثر إيلاماً لقضية أمتنا النبيلة.

3 ـ في هذا المناخ المضطرب الشديد الوضوح أمام نخب الأمة وقياداتها وشعوبها قامت الثورة السورية الكبرى بوجه ما سُمّي بالانتداب الفرنسي على سورية ولبنان طلباً للحرية وللوحدة والتحرر.

4 ـ هذه الثورة لم تكن بنت ساعتها، ولم تكن ردّ فعل على مكر غربيّ فحسب، بقدر ما كانت استشرافاً لمخاطر ما تحمله المؤامرة على أمتنا من جهة، وتطلعاً لبناء وحدة الأمة وتحرّرها من جهة أخرى…

أ – فعلى ضفة الاستعمار كان هدف فرنسا فَرنَسة سورية ولبنان كما حصل في الجزائر، ولو لم تقم هذه الثورة لنجحت فرنسا في ما تصبو اليه. فأعمال القتل وإلغاء المعالم والإعدامات الميدانية واجتياح القرى والبلدات، كان نهجاً فرنسياً مارسته فرنسا في الجزائر وحاولت تثبيته في منطقتنا.

وتقول الوثائق إنّ الجيش الفرنسيّ كان يأمر المقاومين في البقاع الغربي وراشيا بحفر قبورهم بأيديهم ليرديهم بالرصاص دون أن يدفنهم، ليتولى ذووهم دفنهم لاحقاً.

ب ـ أما على الضفة العربية فقد حملت هذه الثورة كلّ صفات الثورة، من مقدّمات وشروط وعناصر ذاتية وموضوعية.

ومن مقدّمات هذه الثورة، أنها نزعت ثوب الحكم العثماني لتلبس ثوب القتال ضدّ احتلال بغيض قائم على القتل والإلغاء والهيمنة العسكرية.

أما شروط هذه الثورة، فهي اتساعها وشموليّتها، فامتدّت من جبل العرب في السويداء بقيادة سلطان الأطرش الى دمشق بقيادة عبد الرحمن الشهبندر، الى الساحل السوري بقيادة صالح العلي، الى الشمال السوري بقيادة إبراهيم هنانو، الى البقاع بقيادة توفيق هولو حيدر، الى بيروت وفلسطين بكلّ نواحيها.

وتقول بعض الوثائق والتحليلات غير المنحازة انّ الثورة السورية الكبرى جاءت من حيث شروطها وتأثيرها في العلاقات الدولية بعد الثورة الفرنسية 1789 وبعد الثورة البلشفية في روسيا 1917.

والثورة هذه لم تكن قتالاً شجاعاً ضدّ القوات الفرنسية فحسب، بل كانت فعلاً سياسياً قومياً ونهضوياً وثقافياً ابتدأت تظهر معالمه مع النخب العربية الداعية للتحرر من الاستبداد العثماني في كلّ من اسطنبول ودمشق وبيروت وباريس، لتظهر هذه المعالم مع طلائع الحملة الفرنسية على سورية ولبنان. ابتدأت مع رشيد رضا وشكيب أرسلان ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني لتستمر مع سلطان باشا الأطرش ورفاقه ضدّ الاستعمار الفرنسي.

لقد استعملت هذه الثورة كلّ أسلحتها، فامتطت سلاح الفكر والأدب والشعر عبر المجلات والدوريات والنشرات وأدوات التوجيه.

من صدى هذه الثورة العظيمة ترنّ في أذني قصيدة أحمد شوقي:

ســلامٌ مــن صـبـا بـردى أرقُّ

ودمــعٌ لا يـكـفكف يــا دمـشـقُ

ومــعـذرة الـيـراعة والـقـوافي

جـلال الـرزء عـن وصفٍ يدقُّ

دم الثوار تعرفه فرنسا

وتعرف أنه نور وحق

لقد سُمّيت هذه الثورة بالكبرى لأنها بالفعل كانت كبرى، برجالاتها وشعاراتها وأهدافها واتساعها الجغرافي والسياسي وتأثيرها في المحيط وتصدّيها للمشروع الغربي الصهيوني بجهد دؤوب من حاييم وايزمن الهادف الى زرع الكيان الصهيونيّ في فلسطين وبادية الشام وهي المنطقة التي تسيطر عليها داعش هذه الأيام.

قبل وفاته سنة 1982 كتب سلطان وصيته قائلاً: «عزمت في أيامي الأخيرة وأنا أنتظر الموت الحق أن أخاطبكم مودّعاً وموصِياً.

لقد أولتني هذه الأمة قيادة الثورة السورية الكبرى ضدّ الاحتلال الفرنسي الغادر، فقمت بأمانة القيادة وطلبت الشهادة وأدّيت الأمانة.

وصيتي لكم أنّ أمامكم طريقاً طويلة ومشقات شديدة تحتاج الى جهاد وجهاد. جهاد مع النفس وجهاد مع العدو. اعلموا أنّ وحدة العرب هي حلم الأجيال وطريق الخلاص وأنّ ما أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ، وأنّ كأس الحنظل بالعز أشهى من دماء الحياة مع الذلّ. أني لم أر أقوى تأثيراً في النفوس من قراءة التاريخ لتنبيه الشعور وإيقاظ الهمم. الحمد لله لقد أعطاني عمراً قضيته جهاداً وأرضيته زهداً، أما ما خلّفته من رزق ومال فهو جهد فلاح متواضع تحكمه الشريعة السمحاء.

قبل قراءتي لهذه الوصية كنت دائماً أُسائل نفسي لماذا انعقدت الراية لسلطان باشا ولم تنعقد لغيره في قيادة النضال العربي في تلك المرحلة. فكان الجواب بهذه الوصية.

ألا يجدر بدولنا وجامعاتنا ومؤسّساتنا التربوية والثقافية ان تجعل من هذه الوثيقة درساً في الوطنية والزهد والحكمة والشجاعة فيتعظ أولو الألباب؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى