نقاط على الحروف

عندما لا يتحمّل صندوق النقد ليبرالية الحكومة «المتوحشة»

 ناصر قنديل

 

ــ الليبرالية المتوحشة هي المصطلح العلمي التوصيفي لنظام حكم المصارف الذي خضع له الإقتصاد الأميركي وأدى به إلى إنهيار عام 2008 في عهد الرئيس الجمهوري جورج بوش الإبن، وأعيد تعويمه مع حكم الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، ليتم تكريسه نهجا حاكما للاقتصاد الأميركي، والنموذج الذي يسعى الأميركيون الى تعميمه في العالم، وما عاناه لبنان من انهيار مالي ونقدي واقتصادي هو ثمرة اعتماد لبنان لهذا النموذج، وفقا لأبسط معاينة للنتائج المدمرة لربط مصير الإقتصاد بنظام الفوائد، وتشكيل قوة طرد لكل استثمار منتج، وصولا الى توظيف عائدات ميزان المدفوعات بالعملات الصعبة لتثبيت مصطنع لسعر الصرف، لتشكل مجموع الفوائد التي سددت من الخزينة اللبنانية للمصارف خلال عشرين سنة الى 120 مليار دولار لا يأتي أحد على ذكرها كعنوان للهدر، كانت الأرباح المصرفية منها أكثر من 20 مليار دولار، وكان رأس المال الموظف عبرها هو حاصل الاستعمال غير المسؤول لأموال المودعين الذين تركوا للمجهول، بينما توزعت المصارف أرباحها وحولتها الى الخارج، وأنفق مصرف لبنان 70 مليار دولار من الودائع، سميت بالفجوة في حساباته مرة، وبالخسائر مرة أخرى، وفتح النقاش على كيفية توزيع أعبائها، بينما يمضي مصرف لبنان والمصارف بتحميلها كلها للمودعين، عبر تذويب الودائع على أسعار صرف منخفضة وشروط سحب تحت السيطرة.

ــ لعب مصرف لبنان والمصارف لعبة موحدة مع بدء الانهيار نهاية عام 2019، وبدّد مصرف لبنان من دون تفويض قانوني، من مجلس النواب او من أي حكومة، مليارات الدولارات تحت مسمى الدعم، من بوابة مسؤوليته عن سعر الصرف، ببيع الدولار على أسعار منخفضة لتمويل شراء سلع معينة، وتمويل تحويل أموال المصارف وعدد من المحظيين، بينما تمّ حرمان المودعين من الوصول إلى أموالهم، إلا إذا رضخوا للإبتزاز القائم على شرائها بسعر يعادل نسبة مئوية وصلت أحيانا الى 10% من قيمتها الفعلية، ولا يزال مصرف لبنان والمصارف يمعنون المضي في هذه السياسة أملا بتذويب ما تبقى من الودائع، وردم الفجوة المالية في حسابات مصرف لبنان عبر تدفيع المودعين قيمتها، والخلاص من فرضية خسائر تحتاج الى عملية توزيع تلحظها أيّ خطة تعافي مالي.

ــ  في آذار 2020 تسلمت حكومة الرئيس حسان دياب الملف المالي فارغا من أي أرقام أو معلومات جدية، وعندما فوجئت بإبلاغها من مصرف لبنان ياستحقاق سداد دفعة من سندات اليوروبوند، توصلت الى حلّ يتيح تفاوضاً لجدولة الديون التي ستستحق خلال عامين، أي للفترة التي تنتهي نهاية هذا العام والتي تبلغ قرابة عشرين مليار دولار، هي ما كان يصرح المصرف أنها مجموع ما لديه من عملات صعبة، وكان الحل أن تقوم المصارف بشراء ما يعادل بضعة مليارات من الدولارات من هذه السندات بما يجعلها مالكة للأكثرية المقررة في التفاوض على هذه السندات واعادة جدولتها، مع عرض ان يمول مصرف لبنان العملية لأنه لا يجوز للدولة مباشرة ان تشتري سنداتها، فكان التواطؤ بين مصرف لبنان والمصارف لإفشال العملية، كي يتم السداد ويستنزف ما بقي من مال، والمستفيد من التسديد هو صاحب الدين، اي المصارف، والوسيط، اي الشركات المملوكة بصورة غير مباشرة من حاكم مصرف لبنان، كما تقول الدعاوى المرفوعة ضده في المحاكم الأوروبية، حتى صار قرار الإمتناع عن السداد ممرا إلزاميا لتفادي الانهيار السريع، وهو ما يروج الخبراء والاعلاميون والثوار، أنه القرار الذي سبّب الإنهيار، وهؤلاء هم أنفسهم الذين يشنون الهجمات الضارية على ما يسمونه بالطبقة السياسية فيما يستشرسون ويستميتون في الدفاع عن حاكم المصرف والمصارف، وعندما بدأ التفاوض بين حكومة الرئيس دياب وصندوق النقد الدولي، كان قد تمّ التوصل الى خطة التعافي، وما فيها من تحديد لفجوة حسابات مصرف لبنان، وما تضمنته من معادلة لتوزيع الخسائر، والدعوة الى التدقيق الجنائي، وخلال شهر كان الإتفاق مع الصندوق على الأرقام، لكن الحملة التي شنّت من مصرف لبنان والمصارف وتبعتها حملة لجنة المال النيابية، عطلت التفاوض، وعندما تشكلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي قبل سنة، وتسلم النائب السابق نقولا نحاس ملف العلاقة بين رئيس الحكومة وصندوق النقد، لم يتقدم التفاوض قيد أنملة، والإتفاق المبدئي الموقع ليس الا اعلان نوايا سياسي بلا أي قيمة مالية أو قانونية.

ــ يرفض صندوق النقد الدولي اعتماد منهجية مصرف لبنان والمصارف التي يسوق لها ممثل الرئيس ميقاتي، نقولا نحاس، ولذلك لا قانون السرية المصرفية الذي أرسلته الحكومة وأقرّه مجلس النواب، ولا صيغة مشروع قانون الكابيتال كونترول، ولا صيغة خطة التعافي، ولا مصير الفجوة في حسابات مصرف لبنان، موضع قبول ورضا في الصندوق، والحديث بين خبراء الصندوق هو أنّ حكومة الرئيس ميقاتي أكثر الحكومات حماية لليبرالية المتوحشة، التي لا يستطيع الصندوق تبني نسختها الأشدّ وحشية، أيّ الأشدّ فتكاً بالفقراء ومتوسطي الدخل، الذين ينظر الصندوق الى الحاجة إليهم في أيّ خطة نهوض، ويدعو لتزويدهم بما يبقيهم على قيد الحياة كي يؤدّوا المطلوب منهم في أسواق العمل وتسديد الضرائب والفواتير، التي يدعو الصندوق إلى مضاعفتها، لكن مع توحيد سعر الصرف، وتعديل الرواتب في الموازنة، ومع رفع فواتير الكهرباء لكن مع تأمينها، ما يجعل القول إنّ أفضل طريقة لجعل اللبنانيين يمتدحون صندوق النقد الدولي هو أن تكون لديهم حكومة الرئيس ميقاتي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى