نقاط على الحروف

عين روسيا على ألمانيا وعين ألمانيا على روسيا

 ناصر قنديل

يقول عدد من الباحثين الروس في السياسة الدوليّة وعلم الاجتماع السياسي، أن ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية وتالياً ما بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، كانت محور اهتمام خاص في موسكو، حيث لا ينسى الروس أن ألمانيا قادت العالم الى حربين عالميتين، في القرن العشرين، بمجرد أن أتيح لها التفلّت من الرقابة الدولية التي فرضت عليها بموجب معاهدات أعقبت فشل حروبها المدمّرة والخطيرة. ويؤكد هؤلاء الباحثون أن صنّاع القرار في موسكو كانوا منقسمين بين تيارين، واحد يدعو الى علاقة الحد الأدنى مع ألمانيا وإبقاء العين مفتوحة على استغلالها لأول فرصة متاحة للعودة الى برامج بناء القوة العسكرية، ما يعني ولادة فرصة لمغامرة جديدة ونازية جديدة، لا يمثل الذين يسمون بالنازيين الجدد فيها إلا ظاهرة الشارع المتطرّف الذي يستبدل كراهية اليهود بكراهية المسلمين والروس، بينما تنشأ في مؤسساتها «الديمقراطيّة» ظواهر تستعيد تلك الظواهر «الديمقراطية» التي مهدت الطريق لحروب أدولف هتلر؛ أما التيار الثاني فكان يعتقد أن احتواء خطر التطرف في ألمانيا يكون بتشجيع المسار الاقتصادي لـ «التفوّق» الألماني، وتوفير الميزات لنجاحه ودعوته للانخراط في أشكال من التعاون السلميّ البعيد عن استقطاب السياسة الغربية المعادية لروسيا. ويقول الباحثون إن الرئيس فلاديمير بوتين حسم الجدل لصالح الخيار الثاني على قاعدة أن الخيار الأول حرب نيات تفقد روسيا التفوّق الأخلاقي الذي يجب الحرص عليه قبل إشهار العداء، بالاستناد الى تحميل ألمانيا مسؤولية تضييع فرص التعاون، والتخلي الطوعيّ وليس الاضطراري عن الموقع الإيجابي، وعندها يكون العقاب مستحقاً وشرعياً ومشروعاً.

في برلين أيضاً لا يستطيع الباحثون الألمان أن يرفعوا عيونهم عن موسكو، ليس فقط لكونها مورد الطاقة شبه الوحيد للاقتصاد الألمانيّ، بل أصلاً لكونها الدولة التي دمّرت المشروع الإمبراطوري الألماني أكثر من مرة، لكن أهمها وأخطرها في الحرب العالمية الثانية، حيث يعتبر الألمان أن الجيش الأحمر السوفياتي هو الذي دمّر الجيش الألماني، وهو الذي دخل برلين منهياً زعامة ومكانة ألمانيا في أوروبا، وأن الجيوش الغربية اضطرت لتسريع إنزال النورماندي لقطع الطريق على تفرّد موسكو بإعلان النصر، ولذلك كان في برلين من يندّد بانفتاح أنجيلا ميركل على التعاون مع روسيا، ويتّهمها بالتخاذل في خطة الاستثمار في موارد الطاقة، لصالح جعل ألمانيا رهينة لعلاقتها بروسيا، وكان المستشار الحالي أولاف شولتز من هؤلاء ضمناً، رغم توليه الدفاع عن ميركل بطريقة أدت إلى وصفها بالسذاجة السياسية، على قاعدة القول بأن «نيتها كانت طيبة ولم تكن تعلم ما يكفي عن الخبث الروسيّ». وبعكس موسكو لا ينقسم صناع الرأي العام الألمان حول الموقف من روسيا، فعيونهم مركزة على موسكو بدافع الانتقام، والاعتقاد أن إضعاف روسيا سيتيح عودة الأمجاد الألمانية، وتسيد المشهد الأوروبي اقتصادياً وعسكرياً، على قاعدة ثنائية ألمانية أميركية أو ثلاثية ألمانية بريطانية أميركية في الغرب، وشولتز الذي يقود هذا المسار لا يُخفي أنه كان ينتظر اللحظة المناسبة لإطلاق مشروع إعادة بناء القوة العسكرية الألمانية، من بوابة ملاقاة خطر الحرب الأوكرانية، بحيث يمكن القول إن ألمانيا وليس أميركا فقط تريد القتال حتى آخر أوكراني، على الأقل هذا ما يعتقده الفرنسيون الذين يحمّلون تشدّد شولتز مسؤولية إحباط الكثير من مساعي الوساطة نحو حل سياسيّ قادها الرئيس الفرنسي أمانويل ماكرون، على قاعدة أن أوروبا لا تستطيع تحمّل تبعات الحرب العسكريّة والاقتصاديّة مع روسيا، دون أن تتحول الى مجرد جغرافيا خاوية على خارطة العالم، وقد استنفدت مواردها وتشظّت مجتمعاتها وفقدت قدرتها على التحرك سياسياً.

بخلاف الحال قبل سنوات، تبدو ألمانيا الجديدة أقرب لبريطانيا من فرنسا، وتتولى تنظيم الصمود الأوروبي أملاً بحدوث الانهيار الروسي، وتقود جبهة الدعم المفتوح لأوكرانيا فيما تسمّيه حرب الاستنزاف المجدية للجيش الروسي والاقتصاد الروسي، ولا تمثل رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، وزيرة الدفاع الألمانية السابقة، إلا أحد أركان المدرسة التي ينتمي إليها شولتز، بحيث تصبح الحرب الأوكرانية حرباً ألمانية روسية في أحد وجوهها، ويصبح الصعود العسكري الألماني إشارة غير عادية نحو نوستالجيا استعادة الأمجاد الإمبراطورية، ولو بنسخة نازية متجددة، نصفها قوميّ متشدّد، ونصفها اشتراكي فاشي، يبني مجتمع الحرب، ولا مشكلة بالعنوان الأوروبي لأمة افتراضية عنصرية في زمن أيديولوجيا العيون الزرق، أمة عنصرية صنعتها شبكات التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا المعلومات، بانتظار لحظة ينفجر فيها الغضب القومي المتشدّد والمتطرف، بينما يسابقه الغضب الاجتماعي بملء الشوارع احتجاجاً على الكلفة العالية لحرب عبثية طلباً لقيادة لا تزال غائبة.

حرب الغاز التي تشنها روسيا على ألمانيا بعد شهور من المراعاة، تعني إدراك موسكو خطورة الوضع الناشئ في برلين من جهة، والحاجة لرفع وتيرة العقاب على حساب الاحتواء من جهة موازية، ويقيناً بأن إشعال الشارع الألمانيّ الغاضب بسبب الأكلاف العالية للحرب بات ضرورة سياسيّة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى