أخيرة

التأسيس… العقائد تحيا بالأفعال

‭}‬ زينب خيربك
تتزاحمُ الأحداثُ والوقائعُ عبر التاريخ فيُدركها الصراعُ على أحقيّة التدوين، ولكن ليس كُلّ حدثٍ يرتقي إلى مرتبة التسجيل في ذاكرة الإنسانية. تتجسدُ هُنا النظرية الداروينية القائلة بالتفاضُل والانتخاب حيثُ يكون البقاء للأحداث الأقوى تأثيراً، تلك التي تتموضعُ بين لحظتين زمنيتين فتصدعُّ مسار التاريخ حيثُ تخلقُ تغييراً عصيّاً على التهميش والنسيان فيظفرُ بالذكر والخلود. أمّا الوقائع التي لم ترتق بأثرها وقوّتها لمستوى التموضع في ذاكرة التاريخ فإنها تضمحلّ وتُنسى بمرور السنين.
إذن… إنّ تاريخ الأُمم يُصنعُ بالقوّة، ولقد خطّت الحضارات الناشئة على أرض الأُمّة السوريّة بقوتها أجمل المنجزات وأعظم البطولات وكان لها سبقُ الريادة في التمدُّن والتطور والارتقاء، فأعطت للإنسانية مفاتيح الهداية إلى المعرفة والعلم وبعثت الحياة الحقّة والخيرة والجميلة بين الأُمم.
«إنّ المجد كان عبداً لسورية» بهذه الكلمات وصف جبران خليل جبران ذلك التاريخ العزيز من حياة أُمتنا ولكنّ عصوراً من التقهقر والذُلّ والانحطاط حلّت عليها لاحقاً، فعُتق المجدُ وذبُلت النفوس وخمُلت، استُعمرت الأرض وقُسّمت ونُهبت خيراتها وسُلبت سيادتنا، ساد الجهلُ وضاعت هويتنا وعمّ بين الناس التخبّط والفوضى وانتشرت الأدران النفسية والاجتماعية، وبدلاً من أن نُسطّر تاريخنا بأيدينا كانت أياديهم تُسطّر ما افتعلوه في وطننا لقرون.
«مصلحةُ الحياة لا يحميها في العراك سوى القوة» قالها أنطون سعاده ذلك الشابُ الذي رفض الجلوس والتحديق في هذا المشهد المتداعي من حياة أُمّته فوقف في 16 تشرين الثاني من عام 1932 مُعلناً بداية الثورة على الخمول والاستسلام وتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي.
قام سعاده بشقّ الطريق لحركةٍ انشأها من صميم الشعب معيداً إليه حيويته وإرادته في الحياة، فابتدأنا الصراع بقوتنا النفسية والروحية لتثبيت حقوقنا المادية في أرضنا ووطننا وتحقيق سيادتنا واستقلالنا.
إنّ فعل التأسيس للحزب السوري القومي الاجتماعي يتمايزُ في جوهره عن ما جاءت به بقيّةُ الأحزاب في الوطن السوري. فهو لم ينشأ حزباً سياسياً أو دينياً لأسبابٍ سياسيةٍ أو دينية، أو تحقيقاً لمصالح أجنبية أو استعمارية لنيل مكاسب فردية، ولم يحمل أهدافاً جزئية أو فئوية أو عرقية، بل «إنّه فكرة وحركة تتناولان حياة أمّة بأسرها، إنّه تجدّد أُمّة توهّم المتوهمون أنها قضت للأبد».
ولكنّ التجدّد والنهوض ليسا بالأمر اليسير، فكيف يخرجُ الأفراد من سجونهم إلى الحُريّة ومن الفوضى إلى الانتظام ومن اللا مسؤولية إلى الواجب ومن الاستسلام والضعف إلى القوة؟ وكيف يقيمون مجتمعاً جديداً؟
المجتمعات الإنسانية عامةً تميلُ إلى التمسك بثقافتها وإرثها الاجتماعي (بما فيها من عاداتٍ وتقاليد وعقائد وأعراف وأنماطٍ حياتية) ولأنّ المجتمع ليس إلا انعكاساً لأعضائه يكون الأفرادُ كذلك مقاومين نسبياً لتغيير أنماطهم وقيَمهم الراسخة في حياتهم ويرون في الاستقرار حالةً مثالية فيرفضون التغيير المُطلق غير راغبين بتهديده ركودهم.
ومع ذلك فإنّ فعل التغيير هو أمرٌ حتميٌّ في تاريخ البشريّة ويطرأُ على شتى المجتمعات منذ الأزل ولكنهُ يختلفُ في الكمّ والكيف والسرعة، وعند استقرائنا للتاريخ نتبيّنُ أنّ التغيّرات الكبرى في المجتمعات قامت بفعل وقفاتٍ استثنائية لقادةٍ أو مُصلحين ومفكرين وعلماء أو نخبٍ اجتماعية يحملون لواء التجدّد والتقدّم، أدرك أنطون سعاده بدراسته واقع المجتمعات وتاريخ الأمم ونشوئها ذلك فآمن بأنّهُ «لا تنهض الأُمّة إلا بقضيةٍ عظيمة كاملة، ولا تنتقل من حياة إلى حياة إلا بحركة خلقٍ تأسيسية شاملةً جميع نواحي الحياة».
قامت تلك الحركة النهضوية ببث مبادئ الإصلاح القومي الاجتماعي التي كوّنت مع غاية الحزب قضيةً شاملةً تتناول الحياة القومية في جميع وجوهها، وبعثت بعقيدةٍ حملت نظرةً جديدةً للكون والحياة ومقاييس جديدة للفن والأدب والأخلاق ونظريات جديدة في الفلسفة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والقانون، وآمنت بالعقل شرعاً أعلى للإنسان فأرست له قواعد لانطلاقة الفكر وأدواتٍ للبحث والمعرفة، فكانت حركةً ذات فاعليةٍ صراعية «تعبيراً عن مبدأ حياة لا مبدأ جماد» مجابهةً ما يعترضها من صعابٍ وعثرات، شاقّةً الطريق نحو الإصلاح والتقدم والعز فالنصر.
من يدرس التعاليم السورية القومية الاجتماعية وتأخذهُ اليقظة القومية فإنّ تجدّداً روحياً يطرأُ في نفسه، تجدّدٌ بفعل وعيه لوجوده وحقيقة أمّته، لأنّ «الشعب يؤمن بمن أوجد له حقيقتهُ بعد ضياعها»، هذا الإيمان الذي يرتقي به إلى مرتبة الوجدان القومي فلا يسعهُ إلا الشعور والإحساس والاهتمام بقضايا مجتمعه والتنبّه لمصالحه والعمل الدائم لخيره وعزّه.
«ليست رسالتي أن آتيكم بشيء غير حقيقي، رسالتي هي أنتم، وإيمانكم وعملكم يثبتان أنّ إيماني كان في محله»… بهذه الكلمات خاطبنا الزعيم وهذه الرسالة التي حملها واستشهد في سبيلها، إيمانه بقدرة شعبه وتلامذته على الاستنهاض بأمّته من جديد، هذه الثقة التي أرساها على عاتقنا تُعيننا على الثبات والرسوخ بقضيتنا ومبادئنا، نحن السوريين القوميين الاجتماعيين أمل الأُمّة السورية الوحيد.. فحاربوا في سبيل قضيتكم بالأعمال والأفعال بإرادةٍ لا تلين وإيمانٍ مجبولٍ باليقين تلقوا الانتصار العظيم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى