أولى

التعددية المتفجّرة ظاهرة عالمية: كيف نواجه آثارها في لبنان؟

‭}‬ د. عصام نعمان
من الظواهر اللافتة في عالمنا المعاصر تفجّر التعدّدية المجتمعية أو تفجيرها في معظم الدول والبلدان. قلّما يقع المراقب المدقق في هذه الآونة على دولة أو بلد غير متعدّد أو تعدّديته غير متفجّرة. ثمّة تفاوت في درجة التفجّر او التفجير بين بلد وآخر، وكذلك التفاوت في الآثار والتداعيات.
التفجّرُ يكون ناجماً عن فواعل ومفاعيل ذاتية متراكمة. التفجير يكون، غالباً، نتيجةَ تدخلٍ خارجي ظرفي او متواصل. عواملُ متعددة أسهمت بمرور الزمن في التفجّر او التفجير، لعل أهمها ثلاثة:
ـ تبلور الفروقات الإثنية والثقافية والاجتماعية داخل الجماعات المتعايشة أو المتنازعة داخل البلد.
ـ التدخلات الخارجية السياسية والعسكرية الموظّفة أحياناً في دعمِ جماعةٍ على حساب أخرى، إنما دائماً لمصلحة القوة الخارجية المتدخلة.
ـ تطور الآليات والأدوات الناجمة عن ثورة المعلوماتية الإلكترونية وشيوعها أدى ويؤدي الى تعميق وعي الفرد والجماعة بكينونتهما، والنزوع تالياً الى تعزيزها وتفعيل دورها في الحياة.
لا غلوّ في القول إنّ لبنان هو الأكثر معاناةً بين مختلف البلدان العربية من آثار وتداعيات تفجّر التعدّدية أو تفجيرها، فهو في حال اضطراب سياسي واجتماعي منذ تأسيس كيانه على أيدي سلطات الاستعمار الفرنسي سنة 1920 ولغاية الوقت الحاضر. يتمظهر هذا الاضطراب بالصراعات السياسية الحادة، والتنازع والحروب الأهلية بين مختلف الطوائف الدينية والمذهبية التي يتكوّن منها مجتمعه (او مجتمعاته السياسية)، وبالانسداد السياسي الذي يبلغ أحياناً حدّ العجز عن ملء المناصب العليا الشاغرة في السلطتين التنفيذية والقضائية ما أدى ويؤدي ماضياً وحاضراً الى شيوع حالٍ من اللاقرار في الدولة او ما تبقّى من مؤسساتها المتداعية.
كيف يمكن الخروج من هذه الحال المجتمعية المضطربة؟
ثمة مقاربات ومبادرات عدّة، لعلّ أبرزها ثلاثة:
أولاها مقاربةٌ علاجية، إن صحّ التعبير، يدعو منظّروها الى التريث في مباشرة الخطوات الإصلاحية المطلوبة الى ما بعد اتضاح أبعاد التحوّلات الجارية في الإقليم، لا سيما بعد المصالحة السعودية – الإيرانية بدعوى صعوبة الخروج من وضع لبنان المتفجر قبل استقرار الوضع في الإقليم وتهدئة العلاقات المتشابكة والمتوترة بين مختلف بلدان المشرق العربي من جهة، وبينها وبين الكيان الصهيوني المضطرب حالياً من جهة أخرى.
ثانيتها مبادرة سياسية مناهضة للولايات المتحدة الأميركية تدعو الى التشدّد معها ومع حلفائها المحليين وذلك للحؤول دون نجاحها في توليف انتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية وتأليف حكومةٍ جديدة مواليين لسياسة الغرب الأطلسي ومهادنين للكيان الصهيوني.
ثالثتها مبادرة وطنية عابرة للطوائف تنهض بها مجموعةُ من المفكرين والقياديين الناشطين في أوساط القوى الوطنية الحيّة، غايتها ووسيلتها في آن التوصل الى مشروع تسويةٍ تاريخية متكاملة لأزمة لبنان المزمنة يقوم المفكرون والقياديون الوطنيون بوضع خطوطها العريضة وآليات تنفيذها في وثيقة يجري وضعها في ضوء مناقشاتِ ورشة عملٍ يشاركون فيها (مع غيرهم) وتكون أساساً لحوارٍ مستفيض يجري لاحقاً في مؤتمر وطني عام ينتهي بدوره الى صياغة مقرّراته في وثيقةٍ متكاملة يلتزم واضعوها والموافقون لاحقاً على اعتمادها لبناء وتفعيل حركةٍ شعبية واسعة مهمتها تجاوز نظام المحاصصة الطائفي الفاسد، سلماً وتدريجاً، بعملٍ جدّي وبنَفَس طويل لبناء دولة المواطنة المدنية الديمقراطية.
العمليةُ السياسية والتنظيمية آنفة الذكر تتطلّب وقتاً طويلاً دونما شك، لكنه وقتٌ مطلوب على أيّ حال لمحاصرة وتعطيل مفاعيل التعددية المتفجّرة والمرهقة التي يعانيها لبنان وتعرقل العاملين للخروج من حال الاضطراب السياسي والأمني السائد الآن.
أسمح لنفسي بأن أُفصح عمّا سأقوله في ورشة العمل العتيدة للزملاء المشاركين فيها وهو التشديد على خمسة أمورٍ أعتبرها مركزية:
الأول، أن المشهد السياسي والاقتصادي والأمني في لبنان شديد التعقيد، لا سيما بعد تزايد التوتر والانقسام حول تداعيات وجود نحو مليونيْ نازح سوري في البلاد تتطلّب معالجته وقتاً طويلاً لارتباطه بمفاوضاتٍ يقتضي إجراؤها مع الحكومة السورية في وقتٍ تُعارض تكتلات سياسية نافذة ومؤيدة للولايات المتحدة التي تعارض انفتاح لبنان على سورية كما عودة النازحين السوريين الى بلادهم بل تعمل على توطينهم في لبنان بدعوى تفادي احتمال هجرتهم الى اوروبا واميركا. ما أريد التشديد عليه هو ان ضغط الحاجة الى تسوية مسألة النازحين السوريين وما تتطلبه من وقتٍ طويل يجب ألاّ يدفعنا الى التسرّع بارتجال مخارج وتسويات فجّة ومسلوقة سرعان ما تتداعى وتخلّف ذيولاً من شأنها مضاعفة حال البلاد المضطربة اصلاً. فلنأخذ كل الوقت اللازم لإنتاج حلولٍ ومخارج وطنية صحيحة وعملية تفادياً للفشل والعودة الى مزيد من الاضطراب والتعقيد والإخفاق والوقوع في كمائن الهيمنة الأميركية.
الثاني، ان نظام المحاصصة الطائفي والمنظومة الحاكمة المنبثقة منه هما منبع الفساد والانهيار والانحطاط الذي ترتع فيه البلاد، فلا يُعقل أن يتولّى الفاسدون والمفسدون إصلاح ما جنته أيديهم. لذا يقتضي ألاّ ينهض بالإصلاح إلاّ المصلحون بعد تجاوز النظام الطائفي الفاسد وإقصاء منظومته الفاسدة.
الثالث، إن دستورنا المعدّل سنة 1990 يحتوي كل الإصلاحات التي نصّ عليها اتفاق الوفاق الوطني في الطائف سنة 1989، وهو الوثيقة الإصلاحية الوحيدة التي تحظى بأوسع توافق شعبي وسياسي ما يستوجب اعتمادها اختصاراً للوقت والجدل غير المجدي ومنطلقاً وأساساً لمشروع التسوية التاريخية المنشودة التي تكفل تحقيق الإنقاذ والإصلاح وصولاً الى دولة المواطنة المدنية الديمقراطية.
الرابع، أن الكيان الصهيوني المدعوم من قوى الهيمنة في الغرب الأطلسي عدو وجودي للعرب، وبالتالي للبنان شعباً ووطناً ودولة. لذلك يقتضي أن يتضمن مشروع التسوية التاريخية المنشودة للخروج من نظام المحاصصة الطائفي التزاماً باعتماد خطة متكاملة للدفاع الوطني تكفل حماية أمن لبنان وسيادته، ومواجهة العدو الصهيوني بتعزيز الجيش الوطني وتسليحه بالأسلحة المتطورة من جميع المصادر المتاحة، وتنظيم تعاونه مع قوى المقاومة الوطنية لضمان الدفاع عن أرض لبنان ومياهه وموارده الطبيعية.
الخامس، ضرورة قيام الحركة الشعبية من أجل الإنقاذ والتغيير والإصلاح بالضغط على أهل السلطة القائمة لتأمين أولويات المعيشة اللائقة كالغذاء والدواء والاستشفاء والماء والكهرباء والنقل، وذلك بموجب تدابير تصون المصلحة العامة ولا تهدر المال العام.
هل ثمّة مقاربة ونهج أسرع وأفعل من تلك التي عرضتُ خطوطها العريضة آنفاً لمواجهة آثار التعددية المتفجّرة والمرهقة التي يعانيها اللبنانيون في الحاضر وتحاول القوى الخارجية المعادية إعادة إنتاجها لتجديد معاناتهم في المستقبل؟
*نائب ووزير سابق
[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى