أولى

دبلوماسية البوارج وبوارج الدبلوماسية…

د. حسن أحمد حسن*
ارتفاع نسبة العدائية الأميركية تجاه كل من يقول: «لا لواشنطن: هو الأمر المتوقع، وهو المعروف والمعهود عن الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ استطاعت واشنطن الاستثمار في الحروب والنزاعات وخلق بؤر التوتر والاضطراب، وتصدير مصطلح «الإدارة بالأزمة» بدلاً من «إدارة الأزمة»، ولذا المنطق العلمي يفرض على المهتمين والمحللين والمختصين بالتخطيط الاستراتيجيّ بناء دراساتهم على توقع السيّئ والأسوأ من أي مواقف أميركية لم تتضح معالمها بعد، بما يسمح برؤية الصورة والمشهد قبل اكتمال التشكل النهائيّ، وقد أثبتت الأحداث وتطوراتها على امتداد عقود سذاجة من يراهن على انتظار الخير من أي إدارة أميركية تدّعي الحرص على الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان وما شابه ذلك من مصطلحات. فالخير والسعادة ورغد العيش والديمقراطية المثلى مرتبط بتمجيد أميركا والتسبيح بحمدها، ومدى خدمة المصالح الأميركية وليس أيّ أمر آخر باستثناء بعض الفتات الذي قد ترمي به لمن يظنون أنهم حلفاء وأصدقاء، أو ما يتبقى على موائد العربدة بعد حفلات المجون وتبادل أنخاب قهر إرادة الشعوب بين المسؤولين الأنكلوساكسونيين وأتباعهم أصحاب الأدوار الوظيفية المحددة.
سرّ هذه العدوانية المفرطة أنّ المشمولين ضمن دورة صنع القرار الأميركي استمرؤوا الرقص على الجماجم، وراق لهم انبطاح الآخرين أمامهم لكسب رضاهم، أو اتقاء شرورهم على أقل تقدير، بعد أن ساد الأوساط الدولية شبه يقين بأن إغضاب الأميركي يعني بداية النهاية الحتمية، وبمثل تلك المستويات المرتفعة من العدائية والترهيب بالغزو والقتل والدمار وإثارة الفتن والاقتتال بين دول العالم أو بين أبناء الدولة الواحدة شيّدت أميركا أبراج ثروتها وترفها على جثث الأبرياء، وأميركا هذه لا تجد حرجاً قط في النزول عن الشجرة العالية من دون مقدمات عندما تتيقن أن ما تولده من عواصف وأعاصير سيهز عرش هيمنتها وغطرستها المرفوضة من دول تعي ذاتها، وتدرك كيفية الخروج من القمقم الأميركي، وتمتلك إرادة دفع فاتورة إغضاب واشنطن لقناعتها أنّ التكلفة -مهما ارتفعت – تبقى أقلّ بكثير من فاتورة إرضاء من يتحكّمون بالقرار الكوني، ولا يقيمون وزناً لأعراف المجتمع الإنساني والقانون الدولي، ولا لميثاق الأمم المتحدة، كما لا يعنيهم التنصل من أي تعهد يقطعونه على أنفسهم، أو اتفاق يوقعون عليه اليوم، ويمزقونه غداً، وكأن شيئاً لم يكن، وما على الآخرين إلا الإذعان لمثل هذا المنطق.
الأمر الأهمّ في دراسة العدائية الأميركية خاص بتلك المنعطفات التي تبدو واشنطن وكأنها في طور تعديل دفة القيادة والمسار، والنزول الإرادي والذاتي عن الشجرة التي صنعتها بذاتها، وتسلّقتها بترف وتكبر، وعندما تتأكد أن الاستمرار بالصعود يعني السقوط الحر من علٍ، مع الأخذ بالحسبان حجم الكتلة الكبيرة والوزن النوعي الهائل لتلك الكتلة، وما قد يخلفه سقوطها الحتمي فيما لو استمرّت بالصعود أو البقاء على أغصان تهزّها الرياح بعنف وقوة تزداد شدّتها طرداً مع مرور الوقت، وحصراً في مثل هذه الحالات فقط تتبدّل وجهة الرياح الأميركية، وتسارع واشنطن إلى تحريك بوارج دبلوماسيتها لإنقاذ دبلوماسية البوارج التي اعتادت أن تفرضها بالتهديد والوعيد والتلويح بأساطيلها المنتشرة في شتى البحار والمحيطات.
وفق هذا المنطق المتأرجح بين دبلوماسية البوارج، وبوارج الدبلوماسية يمكن فهم الخطاب الأميركي الموجّه للصين، فهي تعمل على تسليح تايوان، ودفعها أكثر فأكثر للانفصال عن الوطن الأم الصين، وتربطها بالبيت الأبيض بعلاقات مباشرة، وفي الوقت نفسه ترسل مسؤوليها إلى بكين لتحييدها عن مساندة موسكو، أو لتأجيل ذلك وتقليله ما أمكن، ولا يستبعد أن نرى بوارج الدبلوماسية الأميركية بعناوين ومسميات متعددة تتقاطر إلى موسكو بأعلام مختلفة بعد التيقن من العجز عن إغراق روسيا في الأوحال الأوكرانية، وقد لا يطول الانتظار لدى من يتمنون رؤية انقلاب المشهد القائم حالياً رأساً على عقب من دون مقدمات.
الصورة بمضمونها ذاته، وبإخراج مختلف تتكرّر في مياه الخليج وغرب آسيا، ففي الوقت الذي ارتفعت فيه نسبة التفاؤل بالاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، وتواترت فيه الأخبار عن سعي تحت الطاولة من قبل إدارة بايدن للعودة والتوقيع على الاتفاق النووي الذي مزقته إدارة ترامب، وفي الوقت الذي استبشر فيه الناس خيراً بعودة انفتاح الدول العربية على سورية، وحضورها الفاعل في قمة جدة، وما بُني عليه من آمال بغد أفضل وأقل توتراً وحدة.. في مثل هذا التوقيت تعلن واشنطن عن تعزيز قواعدها العسكرية غير الشرعية في الشرق والشمال الشرقي السوري، وتعمل على زيادة عدد التنظيمات الإرهابية المسلّحة المنضوية تحت العباءة الأميركية، وتدريبها لنشرها وتوسيع مناطق سيطرتها بمباركة أميركية مباشرة.. وفي الوقت نفسه تعلن وزارة الدفاع الأميركية عن إرسال «3000» من مشاة البحرية الأميركية، ويتزامن وصولهم مع وصول السفينة الهجومية البرمائية الأميركية «يو إس إس باتان» وعلى متنها أكثر من عشرين طائرة من أحدث الطائرات الحربية الأميركية، وكذلك سفينة الإنزال «يو إس إس كارتر هول» إلى البحر الأحمر بعد عبورهما قناة السويس، وأعلنت البنتاغون نيتها بنشر مشاة بحريتها على متن السفن التجارية، مما يوحي بمزيد من التوتر والتصعيد الأميركي المتعمّد، ومن المفيد هنا الإشارة إلى بعض النقاط المهمة، ومنها:
ـ تعزيز الوجود العسكري الأميركي ذاتي صرف، ولا يستند إلى طلب أي دولة من دول المنطقة ذلك، وإن كان من المسلم به أن واشنطن تستطيع أن تفرض على دول الخليج وغيرها اليوم قبل الغد إرسال طلبات رسمية لتعزيز الحضور الأميركي – وهذا تحصيل حاصل – وبالتالي ما يساعد على توضيح الصورة أن إرسال تلك القوات والمدمّرات كان بقرار أميركي، وليس بناء على طلب أحد.
ـ الأسطول الأميركي الخامس من أكثر الأساطيل الأميركية تجهيزاً بالعدد والعتاد والطاقة التدميرية، وهو يعمل في الخليج والبحر الأحمر وخليج عمان والمحيط الهندي، بما في ذلك المضائق الحيوية مثل مضيق هرمز وقناة السويس، وتستطيع البنتاغون بالأسطول الخامس تأجيج صراعات مسلحة وخوض أعمال قتالية تنتشر على مساحات جغرافية كبيرة من دون الحاجة إلى تعزيزات جديدة تقطع آلاف الأميال وتنتشر في منطقة ليس فيها ما يعكر الأمن والاستقرار إلا دسّ الأنف الأميركي بشؤونها الذاتية حماية للكيان الإسرائيلي ولمصالحها المتناقضة مع مصالح شعوب المنطقة.
ـ دول المنطقة هي المسؤولة عن الأمن والاستقرار وجيوشها هي الأقدر على توفير ذلك، وليس الأميركي الذي ما انتشرت قواته في أي بقعة جغرافية إلا وانتشت معها الحروب والفتن والصراعات التي تجيد واشنطن إذكاءها وتأجيجها لأطول فترة ممكنة.
ـ الأميركيون هم الأقدر على فهم المواقف الأميركية التي يتم اعتمادها والإعلان عنها رسمياً، وقد ذكرت مجلّة «Responsible Statecraft» الإلكترونية، التابعة لمعهد «كوينسي للدراسات» الأميركي، أنّ تصعيداً عسكرياً أميركياً يجري في الخليج، وأنّ «حرب ناقلات» جديدة تتفاعل، بعد قرار الولايات المتحدة وضع قوة عسكرية على متن الناقلات البحرية التجارية، وأضافت المجلة أن «آخر مرةٍ وضعت فيها واشنطن قوةً مُسلّحة على متن سفنٍ تجارية، كانت خلال الحرب العالمية الثانية»، وهذا يعني اعترافاً أميركياً من إدارة بايدن بأنها بسلوكها هذا تعتبر نفسها في حرب عالمية، وطالما أنّ التعزيزات أرسلت إلى منطقة الخليج، فهي مكرّسة بشكل مباشر لمواجهة إيران التي لم تتأخر بتصدير الرسائل الجوابية الواضحة بمعانيها ودلالاتها.
ـ ردّ الحرس الثوري كان شديد الوضوح، ويتضمّن عزم طهران وقدرتها على الردّ على أيّ تصعيد أميركي، وسيقابل بالمثل أيّ عمل تقوم به واشنطن لاحتجاز السفن الإيرانية، والأهمّ أنّ «إيران تمتلك القدرة العسكرية والقرار المطلوب للردّ في أي مكان وبأي شكل». وعندما يرد هذا الكلام على لسان الناطق باسم الحرس الثوري فإنه يعني أن القرار بالرد متخذ، ولا يحتاج البحارة الإيرانيون إلى قرارات جديدة تصدر بالردّ على الاعتداءات الأميركية في حال حدوثها، أي أنّ الردّ أصبح تكليفاً شرعياً ووطنياً، فضلاً عن كونه مسؤولية عسكرية مباشرة، وهذا كفيل بإلزام أصحاب الرؤوس الحامية لإعادة حساباتهم قبل الإقدام على أي حماقة.
ـ إذا كان هناك مَن يحسب أو يخال أو يظنّ أنّ هذا التصعيد الاستكباري الجديد يساعد إدارة بايدن على استعادة الهيبة المتآكلة فهو واهمٌ ومشتبه، فعندما تكون واشنطن بصدد التصعيد الميداني الفعلي فإنها تمتلك ما يمكنها من خارج المنطقة من استنفاد بنك الأهداف المحدّد لديها، والمسؤولون الأميركيون على يقين أنّ كلّ قواعدهم في المنطقة تحت مرمى أطراف محور المقاومة، وقد يرى بعض مكونات هذا المحور أنّ الفرصة ذهبية لتوجيه الصفعة الأشد إيلاماً، وإرغام المسؤولين في بلاد العم سام على مغادرة المنطقة بأسرع وقت وبأقل تكلفة ومن دون مقدمات تمهيدية لا ضرورة لها.
خلاصة واستنتاج
لا يمكن فصل الخطوة التصعيدية الأميركية الجديدة عما يعيشه الكيان المؤقت من توتر واضطراب مفتوح على المجهول، ولا يستبعد أن يكون المنظرون الاستراتيجيون وضعوا في حساباتهم أنّ حكومة نتنياهو المتطرفة قد تأخذ الكيان إلى انتحار ذاتي بغض النظر عن صاعق التفجير داخلياً كان أم خارجياً.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى