الانقلاب أفريقيٌ والسقوط فرنسيٌ
} ميرنا لحود
في كلّ انقلاب أفريقي يهتزّ عرش الاستعمار الفرنسي. شهد النيجر، في 26 تموز/ يوليو الماضي، انقلاباً قبيل القمة الروسية ـ الأفريقية. فانتفضت باريس وبدأت الدروس تتوالى من الرئيس ماكرون إلى وزيرة الخارجية وعدد من الناطقين الرسميين وغير الرسميين أيّ أصحاب «الاشتراك الدائم» في الإعلام.
رغم تعاظم وارتفاع وتيرة الأصوات لم يكترث النيجر ولم يصغ للضجيج والعويل الفرنسيين. فمع المتغيّرات العالمية التي تتبلور صعوداً بقيادة روسيا والصين لم يعد للسيمفونية الفرنسية على الساحة الدولية أيّ قيمة. فتعددية الأقطاب أصبحت أكثر وضوحاً والانخراط في المعسكر الصيني الروسي الذي تغلب عليه معادلة «رابح ـ رابح» بدأت تجذب دولاً وبلداناً وها هي أفريقيا تلفظ الاستعمار بجناحيه الفرنسي والأميركي ومن البديهي أن تلحق بالركب الشرقي.
فوقاحة واستعلاء حزب نادي «الرؤساء الصغار للجمهورية»، المتشكل منذ 2007 في فرنسا، غير قادرٍ على ردع الوعي الأفريقي. فالأمور المتعلقة بالإرهاب أو بسرقة الثروات مهما طال زمن تمدّدها فهذا لا يعني أنه أبديّ. فالسرقة سرقة ولسيت مهارة والكذب كذبٌ وليس بـ ذكاء والقتل والعنف لا يلجأ إليهما إلاّ حزب إبليس الضعيف الذي يحتال ويستخف في العقول. والبرهان على ذلك، بعد عقود من التواجد الفرنسي فلم تتحسّن ظروف البلدان الأفريقية لا في مالي ولا في بوركينا فاسو ولا في النيجر ولا أيّ مكان آخر يطأه الفرنسي. إنما الأوضاع تزداد سوءاً لا بل من سوء إلى أسوأ.
النيجر وموقعه الجغرافي وثروته
النيجر بلدٌ حبيس بين عدة بلدان. يحدّه من الجنوب نيجيريا ومن الشرق تشاد ومن الشمال ليبيا والجزائر ومن الغرب مالي وبوركينا فاسو بالإضافة إلى جهورية بنين. تبلغ مساحة النيجر حوالى 1,270,000 كلم مربع مما يجعله أكبر دولة في منطقة غرب أفريقيا. يعدّ النيجر من أفقر دول العالم رغم الثروة المكنونة في باطن أرضه: من يورانيوم وذهب وفحم ونفط. إلاّ أنّ الاستعمار يتقاسم الثروة مع الحكام المدعومين من قبل الغرب ليستحوذ الأخير على 70% من غنى البلد ويترك للحاكم وحاشيته 30% من غنائم الثروة. صيغة متبعة لعمليات النهب الممنهج للاستعمار ومن خلال أو عبر عقيدة «النوايا الحسنة» كالديمقراطية التي يفرضها والحرية التي يبسطها والضغط للاعتراف بالشذوذ وترسيخ «حزب الميم» من متغيّر إلى متحول جنسياً فالمستخف والمستهتر والمثلي وكلّ ما يتفرّع من آليته الفاسدة والمخربة للعقول والأجيال.
الخروج الفرنسي من أفريقيا
في أقلّ من عام خرجت فرنسا من مالي وبوركينا فاسو واليوم من النيجر بسبب الوعود الكاذبة. ففي العام 2013 دخل مئات من الإرهابيين التابعين للقاعدة وداعش واستولوا على بقعة جغرافية في شمال مالي. بعدها دخلت قوات فرنسية وأميركية بقرارٍ أممي يهدف إلى دحر الإرهاب. وكان الإرهابيون يتسللون من ليبيا بعد أنْ تمّ تدمير البلد على يد الناتو. مرّت ثماني سنوات والإرهاب في مالي يتمدّد إلى أنْ بسط سيطرته القاتلة على كافة الأراضي. ورغم الادّعاءات الفرنسية الأميركية لم تفلح القوة الغربية في القضاء على الإرهاب. فبعد عشر سنوات من التمدّد المستديم للإرهاب استعانت مالي بقوات فاغنر الروسية. والمعجزة أتت في غضون أسابيع فتحرّرت مالي من الإرهاب وبعدها بوركينا فاسو الذي بدوره استعان بالمساعدة الروسية الفعّالة. على ضوء النتائج وفي ظلّ عجز فرنسي لدحر الإرهاب وجه الطلب الأفريقي إلى الفرنسي بالخروج نهائياً وبإنهاء كافة العمليات العسكرية وفك التعاقد سواء كان في مالي أو في بوركينا فاسو.
طلب فاغنر في أفريقيا
طرح فاغنر مقابل المساعدة العسكرية التقاضي بالذهب بدل العملات الأجنبية. وكانت كميات الذهب ترسل إلى روسيا لتصبح الأخيرة ثاني أكبر مخزون من الذهب في العالم بعد الصين. إضافةً إلى التعامل العسكري الروسي تتعاقد أفريقيا مع الصين في الاقتصاد. فلم تعد أفريقيا بحاجة إلى الغرب المنافق والمهيمن. ستحلّ الصين مكان الصندوق النقد الدولي «الناهب» للنهوض بأفريقيا الغنية وستعنى روسيا بالأمن لذا فالصراخ الفرنسي والتحريض الأميركي عبر وسائل الضغط والتهديد يزداد توسعاً في الإعلام المنظور وغير المنظور. لكن العالم يتغيّر والله يحق الحق ويبطل الباطل.
عدم الاعتراف بالخطأ يعني الإفلاس
لا تريد فرنسا الاعتراف بأخطائها أينما حلّت، ما يعجلها في تدهور مستدام. ومن لا يعترف بالخطأ ينزلق من هاويةٍ إلى أخرى. والدليل على ذلك تصرفات ماكرون الأكثر من متهوّرة والتي تعكس كون فرنسا في تراجع عمودي وأفقي. ماذا يعني طلب ماكرون من قمة دول بركس باستضافته؟ وماذا يعني التهديد بقطع المساعدات الفرنسية إلى بلد النيجر؟ من هو بأمسّ الحاجة اليوم إلى اليورانيوم لتوليد الطاقة؟ بالتأكيد ليس النيجر لأنّ أغلبية سكان النيجر لا تصل إليهم شبكة الكهرباء أصلاً. وفي ظلّ التهديدات الفرنسية ماذا سيحلّ بمشروع خط غاز «نيجيريا ـ أوروبا» الذي سينطلق من نيجيريا إلى النيجر مروراً بالجزائر وصولاً إلى أوروبا؟
أرقامٌ قبل الانقلاب
تعيش فرنسا تضخماً كبيراً ويبدو أنّ الفصل المقبل سيكون أصعب بكثير. في الأول من شهر آب الجاري حدّدت أسعار الطاقة لتسجل ارتفاعاً وصل إلى 10%، أكثر من 50% من الشركات أسدلت ستارها في الفصل المنصرم ما يعني أنّ أكثر من 13000 ألف شركة أقفلت أبوابها مقارنة بالعام الماضي الذي كان صعباً جداً. تحتاج فرنسا إلى ما لا يقل عن 15% من اليورانيوم من النيجر لتشغيل الطاقة النووية. أمّا الدين العام فتخطى عتبة لـ 3000 مليار يورو وفوائد الدين العام ارتفعت إلى حوالى 51 مليار يورو لتقذف فوق ميزانية الدفاع لعام 2023 البالغة 49 مليار يورو. في ظلّ واقع لبعض من الأرقام غير الكاملة والنهائية فما مصلحة فرنسا في ممارسة التحريض على أيّ حرب في العالم سواء أكان في أفريقيا أم في غيرها خاصةً أنّها الخاسر الأكبر على كافة الأصعدة ومهما كانت النتيجة؟