أولى

تهافت التنظير والتوصيفات والألقاب والتحليلات !

‭}‬ د. عدنان منصور*
في كلّ مرة يطلّ أحدهم على شاشة التلفزة أو الإذاعة، لا يكتفي المضيف بالتعريف عن الضيوف بالسيد او الأستاذ أو الدكتور فلان، او الإشارة الى وظيفته فقط، بل يغدقون عليهم ألقاباً إضافية طنانة رنانة، غالباً ما تكون فضفاضة على معظم حامليها، وإنْ استحقها البعض منهم. إذ أنّ تعميمها على ما هبّ ودبّ، وأين ما كان، وكيفما كان، يسيء كثيراً الى الضيف أكثر مما يفيده، اللهم إلا إذا ما طلب الضيف وأراد ان يعرّف عنه مسبقاً، بصفات غالباً ما يطغى عليها الهالة، والمبالغة التي لا تعبّر عن حقيقة وواقع حال الضيف.
كم هي حافلة الشاشات والإذاعات بالخبراء، والمفكرين، والسياسيين، و»العقائديين»، والباحثين الأكاديميين، والمحللين الاقتصاديين والماليين، و»العسكريين الاستراتيجيين»، الذين يتناسلون يوماً بعد يوم، ويتنافسون مع مراكز الأبحاث والدراسات السياسية، والعسكرية والأمنية العالمي.
حسناً استضافة خبراء اختصاصيين فعليين في مجالات عديدة، أكانت سياسية أو علمية، أو اقتصادية، او مالية، او نقدية، او عسكرية، أو أمنية.
لكن ان يطلّ على شاشات التلفزة والإذاعات هذا الكمّ الكبير ممن يطلقون على أنفسهم صفة خبراء، وهم أبعد ما يكونون عن الخبرة العميقة البناءة والتحليل السليم، فهذا امر غير مقبول ويثير الاشمئزاز لدى المشاهدين أو المستمعين.
ليس كلّ من نال شهادة جامعية عليا، او تقلد وظيفة عامة او خاصة، أصبح بحكم الأمر الواقع خبيراً في الشأن الذي يتعاطاه. إذ في كلّ مرة يطلّ «محلل» جديد ما على شاشة التلفزة أو الإذاعة، يقدّم للمشاهدين والمستمعين، يعرّفون عنه، ويغدقون عليه صفة الخبير والباحث الاستراتيجي، او بالمفكر، ما يجعلني ألجأ بفضول الى البحث عنه في غوغل scholar، او غيره من المواقع البحثية الأخرى، كي آخذ فكرة عن البحوث التي نشرها في المراكز التخصصية الدولية، أو النشرات والمجلات الأكاديمية المرموقة والمعروفة، ذات الصلة بالمواضيع السياسية، والتاريخية، والاقتصادية، والعلمية والمالية، والعسكرية وغيرها، التي قدّمها والمعترف بها عالمياً، وإذا بي لا أرى اسماً له ولا بحثاً، ولا دراسة!
لا يتردّد محلل من المحللين، من أجل إضفاء هالة على «معلومة» لا يعرفها غيره، وكأنها معلومة حصرية به، ليقول للمحاور او المحاورة بكلّ ثقة وتباهي: «خذ هذه المعلومة»، و»إليك هذا السر»! وإذا بهذا السر أو المعلومة لا أساس لها وهي من نسج خيال من روّج لها، ليصدّقها في ما بعد من يصدّقها عن جهل او غباء.
كيف يمكن لخبير اقتصادي او مالي ان يجمع في «تحليله» لأزمة اقتصادية معينة في لبنان، السياسة والاقتصاد، والمال في آن معاً، وكأنه عليم في كلّ شيء، دون أن يدرك انّ لكلّ موضوع اختصاصه وخصوصيته. فإذا به يحلل الأزمة المالية بطريقة خبط عشواء، قد يؤثر على المواطن البسيط بكلامه، وصوته المرتفع، وحماسه، واندفاعه، وانفعاله، وحركات يديه التي لا تتوقف صعوداً ونزولاً، يميناً ويساراً، لحين يجد المشاهد نفسه أنه مضطر للانتقال الى قناة أخرى او إقفال التلفاز، بسبب استخفافه بعقول المتخصّصين في شؤون النقد والمال، والمصارف، والاقتصاد .
هل يُعقل لشخص يدّعي انه خبير اقتصادي يعتبر انّ أزمة النقد، وانهيار الليرة، وارتفاع الدولار مرتبط بالسياسة وحدها؟! وانّ الدولة تستطيع تخفيض العملة متى أرادت ذلك! وانّ ارتفاع سعر الدولار وتراجع الليرة سببه سياسي بحت !
يذهب شطط البعض، للقول بثقة عالية لا تخلو من الادّعاء والغرور، ليجزم انّ الدولار سيهبط الى 30 ألف ليرة، ومنهم من يقول الى 15 الف ليرة! ليقولوا لنا، استناداً الى أيّ علم مالي او اقتصادي، يتحفنا هؤلاء «الخبراء» و»الباحثون» بتحليلاتهم التي تثير استغراب المشاهدين العقلاء، وتحدث فيهم الصدمة؟!
كيف يمكن لمحلل و»خبير «سياسي، أن يطلق العنان لنفسه، عندما سئل عن ما سيدور من حديث أثناء الاجتماع الذي سيعقد بين مسؤول عربي رفيع المستوى ووزير خارجية دولة أوروبية كبرى، فإذا بهذا المحلل العظيم يضع نفسه مكان الاثنين معاً، ويبدأ بنسج الحديث الذي سيدور بين الطرفين بثقة كبيرة، و»فهم» كبير، وما سيدلي به ويقوله كلّ واحد للآخر، طارحاً نفسه علام الغيوب، فإذا به علام العيوب.
كثيراً ما يصطدم المشاهد بمحلل يصنف نفسه خبيراً استراتيجياً في الشؤون العسكرية، حتى إذا ما سمعه او رآه المشاهد، عند سؤال المضيف له، عن توقعاته حول التطورات العسكرية الجارية على الساحة الأوكرانية، يبدأ «الخبير» الإستراتيجي على الفور برسم خارطة شفهية عسكرية، واضعاً نفسه في الميدان، ليبدأ بالتنظير، وتحريك القوات الروسية من هنا، وسحب القوات الأوكرانية من هناك، حتى يخال المشاهد او المستمع نفسه، أنه أمام واحد من كبار جنرالات الجيشين الروسي والأوكراني. فهو لا يتردّد في تقمّص ماريشالات الحرب العالمية الثانية، من رومل، ومونتغومري، ولكلير، ومك آرثر وصولاً الى بطل التحرير الفيتنامي الجنرال فون نجوين غياب.
نقول لهؤلاء «الخبراء» السياسيين، والاقتصاديين، والماليين، و»المحللين» العسكريين، والمنظرين، والباحثين الاستراتيجيين: قبل ان تطلوا على الشاشات، وهذا من حققكم، لا تطلقوا على أنفسكم صفة خبراء استراتيجيين، وباحثين، ولا تدعوا محطات التلفزة تطلق عليكم هذه الصفات، قبل ان تبيّنوا لنا الأبحاث والدراسات العلمية التي نشرتموها في المراكز الدولية التي تؤكد صفة الباحث على صاحب العلاقة.
في لبنان يوجد القليل من الخبراء والباحثين الفعليين في الشأن السياسي والاقتصادي، والنقدي والمالي، والعسكري، والأمني، والاستراتيجي، وغير ذلك من العلوم، مع كلّ التقدير العالي لهم، لكن احتراماً، واعتباراً لهؤلاء الباحثين والخبراء الفعليين المرموقين، لا يجوز مطلقاً لأشخاص منتحلي صفة يثرثرون، ويتشبّهون بهؤلاء، حيث تتكاثر أعداد الخبراء والباحثين منتحلي الصفة، وتزداد يوماً بعد يوم كالفطريات، حتى يكاد لبنان يصبح في مقدمة دول العالم من حيث العدد الأكبر من الخبراء، والمحللين والباحثين، ومراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية في المجالات كافة، متجاوزين بذلك الدول الكبرى بعددهم، ونوعيتهم، وخبراتهم، حتى إذا ما سمع عنهم الخارج، يقول باستغراب شديد: ما الذي يفعله ويقدّمه هؤلاء لبلد ينهار ويتحلل، وفيه هذا الكمّ الكبير من «الباحثين» و»الخبراء»، و»المفكرين»، و»الاستراتيجيين» وهو في الدرك الأسفل، لا يحسده على وضعه، حتى أكثر الدول تخلّفاً في العالم؟!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى