دوغماطيقيّة المعارضة: وعيٌ أم غوغائيّة؟
زنوبيا ظاهر
في السياسة لا نؤيّد شخصاً، نؤيّد موقفاً، أو مقالاً، أو فكرةً، أو خطوة. تأييد الأشخاص هو أدنى مستويات الوعي السياسي للمواطن، لأنّنا في المبدأ لا ننتخبُ هؤلاء إلّا لجهة سلوكهم التغييريّ أو الإصلاحيّ، هذا هو جوهر الديمقراطيّة الّتي ندّعيها.
دعونا من نقد العقليّة التبعيّة فقد سئمنا منها، لمَ لا ننقد العقليّة التغييريّة الآخذة بالتنامي سياسياً وإنسانياً، علّ النقد يكون هنا بنّاءً، لا «دقاً للميّ وهيّي ميّ».
منذ بدايات الفكر البشريّ، مال العقلُ إلى التمسّك بمبدأ أوّل، طرفٍ واحد، يضمنُ لهُ استقراراً في رؤيتهِ إلى كلّ ما يعرِضُهُ عليه الواقع، مال إلى إيجاد معادلةٍ بسيطةٍ تساعدهُ على السيطرة، لأنّ التعقيد مخيف، والنسبيّة مُتعِبة، فهي تتطلّب منهُ في كلّ مرّةٍ أن يُعيد التفكير مراراً وتكراراً، أيّ هي بتعبيرٍ آخر مصدر قلقِهِ.. هكذا إلى أن بدأنا بالتحرّر من هذه الصنميّة، أو المطلقيّة، على أصعِدة كثيرة لن نتبنّاها كلّها، لكوننا نتحدّث على مستوى سياسيّ.
لربّما لم نعد بحاجة للرؤى الميتافيزيقيّة للقيم السياسيّة، لا خيرَ ولا شرّ في السياسة، ولا «هويّة أخلاقيّة»، الأمرُ أعقَدُ من الألوانِ في أصالتها، الأمرُ رماديّ، رماديّ جداً.. في السياسة، لا «عقيدة»، العقائد وُضِعَت للجمهور، أمّا رجالُ السياسةِ، فهم متكتكون، متكتكون إلى ما لا نهاية، والتكتيكُ ليس قيمياً، إنّهُ يُمارَسُ في الخفاء، وفي دهاء.
تسقُطُ الأنظمة العالميّة بسبب دوغماطيقيّتها، وهي لا تكفّ عن النشوء، بالمرضِ نفسِه، أحاديّة الرؤية. الاتّحاد السوفياتيّ سقط، لأنّه لم ينجح في الالتزام بتوازنهِ النظريّ، وذاك الرأسماليّ لا زال يتهدّد، بعد أن ظُنَّ أنّهُ «نهاية التاريخ»، وانتهاء الإيديولوجيا، لأنّه لم يستطع أن يحتوي هوَسَ الإنسان. وقد لا نجِد في التاريخ أثراً لرؤيةٍ بانوراميّة للحقيقة، كفيلةٍ بتأمين الاستمرار لمجتمعٍ ما، وكأنّ محرّك التاريخ هو التطرّف، الكفيل بقلب الأحداث هدماً وبناءً.
في الحديث عن العلاقة بين المُعارَضة والسلطة، الأمرُ جديرٌ بالدراسة. في لبنان اليوم، بداياتٌ لثورة، فكريّ أوّلها «حقيقيّ» آخرُها. يُقدّمُ لنا الواقع معطياتٍ متعدّدة: سأمٌ من عُقمِ الحياة السياسيّة، صحوةٌ من فقرٍ اعتادهُ المواطن، وخلف كلّ هذا تحرّر ثقافيّ وأفكارٌ لم يكن ليتقبّلها المجتمع اللبنانيّ سابقاً راحت تبرعِمُ في شريحة الشباب.
هذا الدفعُ الشبابيّ لا بدّ أن يقترِن مع ما قد أسمّيهِ بـ «ذكاء المعارضة»، إذ لماذا على الحاكِمِ أن يتّصفَ بالدهاء دون المواطن الواعي لمواطنيّتهِ، ولطموحِهِ التغييريّ، على الأقلّ، نخبُ المواطِنين؟ المواطِن المثقّف يتعامل مع الحاكمِ كندّ لهُ، كمساوٍ لهُ ثقافةً وقدرة، يفنّدُ مواقفه موقفاً موقفاً، يؤيّد هذا ويرفض ذاك، لأنّ المعارضة ليست رفضاً لأيّ مبادرةٍ قد يقوم بها عنصرٌ من عناصر السلطة، وهي ليست معارضةً لأشخاص، بل معارضةٌ لموقفٍ، لمقالٍ، لفكرةٍ، لخطوةٍ، تماماً مثل التأييد.
نحنُ نرفض «الطبقة السياسيّة الحاكِمة»: من جهةٍ لا نريد إصلاحها لأنّها فاسِدة، ومن جهةٍ لا نستطيعُ نسفَها عن بكرة أبيها. أقول أنّه لو تخلّصنا من هاتين الجبهتين المفتوحتين في أذهاننا، جبهة السلطة وجبهة المواطن، لاستطعنا أن نتعامل مع الحاكم كمواطن مثلنا له أخطاؤهُ وله مساعيهِ الحسَنة. نحن في لبنان لا نعيش في نظامٍ دكتاتوري، بل في نظامٍ تمادى في الأخذ لتمادينا في العطاء.
آن للدوغماطيقيّة أن تنتهي في عقل المثقّف المُعاصِر، لأنّ رفضُ السلطة قد يتحوّل إلى شيء شبيهٍ بالعلمانيّة المتطرّفة، لفرطِ ما رفضت الفكرَ الدينيّ خلقت لنفسها ديناً من نوعٍ آخر. فهَل نقبلُ بسقوطِ الفكر التغييريّ اليوم ضحيّةً لتطرّفِهِ؟