ما الذي يريده بوتين؟ 2/2

إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

الحلقة الماضية من هذا التقرير الذي كتبه روستيلاف أوشينكو لـ«Information Clear House»، تضمّنت عدّة مؤشّرات على صحّة استراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في سعيه إلى فرض معادلات جديدة في هذا العالم، كي يتحرّر من الهيمنة التي تمارسها ـ أو كانت ـ الولايات المتحدة الأميركية مستفردةً بالقرار العالمي.

ورأينا كيف أنّه ـ بحسب أوشينكو ـ مع كلّ سنة تمضي، تضعف الولايات المتحدة وتقوى روسيا أكثر فأكثر. معتبراً أنّ ذلك تطوّر طبيعي وممكن الحدوث. مؤكّداً أنه ـ وبين عامَي 2020 و2025 ـ ستنتهي الهيمنة الأميركية ومن دون حدوث أيّ مواجهات، وستوجَّه حينذاك النصائح لواشنطن حول السبل الأخرى التي عليها انتهاجها بهدف درء تراجعها الداخليّ الحادّ على كافة المستويات، لا في مسألة كيفية حكمها وإدارتها للعالم.

كما رأينا ـ بحسب أوشينكو أيضاً ـ أنّ أيّ حرب هي صراع على الموارد. والفائز التقليديّ هو من يضع يده على العدد الأكبر من الموارد، وفي نهاية المطاف، يمكن تعبئة المزيد من القوات، وبناء المزيد من الدبابات والسفن والطائرات. وحتى أولئك المحرومين استراتيجياً، ربما يحوّلون النصر تكتيكياً لمصلحتهم على أرض المعركة، تماماً كما حدث في حروب الإسكندر الكبير، وفريدريك العظيم، وكذلك حملة هتلر بين عامَي 1939 ـ 1945.

الحلقة الثانية والأخيرة من تقريرنا هذا مقسّمة إلى جزئين: الأول يتضمّن ما تبقّى من مقال أوشينكو، والثاني عبارة عن مقال لعبد الجليل الساعدي ، نُشر في أيار عام 2012 في مجلّة «المجلّة» . ويعتبر هذا المقال وجهة نظر أخرى عن بوتين، تنتقده من باب أنّه وصل إلى حكم روسيا عن طريق قمع التظاهرات وكمّ الأفواه المعارِضة. لكن المقال لم يخل ـ وإن بطريقة نقدية ـ من إبراز صفات بوتين القوية، وقدرته وإمكانياته.

نبدأ بما تبقّى من مقال روستيلاف.

لا يمكن للقوى النووية أن تواجه بعضها مباشرة. لذلك، فإن قاعدة الموارد أمرٌ بالغ الأهمية. وهذا هو تحديداً سبب يأس الولايات المتحدة وروسيا من الحلفاء العام الماضي. ربحت روسيا هذه المنافسة. وليس في مقدور الولايات المتحدة الاعتماد فقط على الاتحاد الأوروبي، كندا، أستراليا واليابان كحلفاء وليس دائماً ضمن قيود أو شروط ، لكن روسيا تتدبّر أمر تحريك الدعم من «منظمة البريكس»، للحصول على موطئ قدم قويّ في أميركا اللاتينية، والبدء في تهجير الولايات المتحدة الأميركية في آسيا وشمال أفريقيا.

كانت محاولةً لإجبار روسيا على الاختيار بين الخيار السيئ والأسوأ. ستكون روسيا مجبرة على قبول وجود دولة نازية على حدودها وبالتالي خسارتها الدراماتيكية للسلطة الدولية وللثقة ودعم حلفائها، وبعد وقت قصير، ستصبح عرضةً لتدخل القوات الأميركية الداخلية والخارجية، مع عدم وجود فرصة للبقاء على قيد الحياة وإلا فإنها قد ترسل جيشها إلى أوكرانيا، تكتسح المجلس العسكري قبل إعادة تشكيله، وتستعيد حكومة ياكونوفيتش الشرعية. ومع ذلك، فقد أدى هذا إلى اتهامها بأنها دولة تعتدي على أخرى مستقلّة وتقمع ثورة شعبها. وقد ينتج مثل هذا الوضع عن حالة من عدم الرضى من جانب الأوكرانيين، والحاجة إلى إنفاق ضخم على المستويات العسكرية، السياسية، الاقتصادية والدبلوماسية للحفاظ على النظام الدمية في كييف، إذ ما من حكومة أخرى كان يمكن لها الاستمرار في ظلّ هذه الظروف.

تحاشت روسيا الخوض في هذه المعمعة. لم يحدث اجتياح مباشر. إنها الدونباس التي تقاتل كييف. إنهم الأميركيون الذين يكرّسون الموارد الشحيحة لإنعاش نظام في كييف محكوم عليه بالفناء، بينما تبقى روسيا تقدم ـ وعلى رغم كلّ ذلك ـ عروضاً لتحقيق السلام.

إذاً، فإن الولايات المتحدة تستخدم الآن الخيار الثاني. خيارات صارت ذات لغة خشبية. لا يمكن القبول بها أو حتى احتمالها، وستكون سيئة إلى حدّ يكون فيه الانتصار أكثر كلفة من الهزيمة، واستخدام كلّ موارها لاستعادة الأراضي المدمرة. وبالتالي، لم يعُد بوسع الولايات المتحدة تقديم شيء أكثر من الخطاب السياسي لكييف، من خلال تشجيعها على نشر الحرب الأهلية في جميع أنحاء البلاد.

ينبغي أن تُحرق الأراضي الأوكرانية، ليس فقط الدونتسيك أو لوغانسك إنما ايضاً كييف ولفوف. المهمة تبدو سهلة للغاية: تدمير كامل للبنى التحتية الاجتماعية قدر الإمكان وترك الشعب على حافة الانهيار. ما سيخلق ملايينَ من الأوكرانيين الجائعين، اليائسين والمسلّحين الذين سيبدأون بقتل بعضهم للحصول على الطعام. غير أن الطريقة الوحيدة لوقف حمّام الدم هذا، قد يكون في تدخل عسكري دوليّ ضخم في أوكرانيا، وضخّ كمية هائلة من الأموال لإطعام السكان، ولإعادة بناء الاقتصاد إلى حين تتمكن أوكرانيا من إعادة إطعام نفسها بنفسها.

إنه لمن الواضح أن روسيا هي التي ستتحمل جميع هذه التكاليف. يؤمن بوتين حقيقةً أن الموازنة ليست وحدها، بل أيضاً الموارد العامة، بما فيها تلك العسكرية، ستكون غير كافية. ولذلك، فإن الهدف هو عدم السماح لأوكرانيا بالانفجار قبل التمكن من السيطرة على الوضع. لا بدّ من تقليل الخسائر والدمار، وإنقاذ أكبر قدر ممكن من الاقتصاد المنهار، والبنية التحتية للمدن الكبيرة.

يظهر في هذه المرحلة حليف جديد لبوتين، يتمثل في الاتحاد الأوروبي. فلطالما سعت الولايات المتحدة إلى استخدام المصادر الأوروبية في صراعها مع روسيا والاتحاد الأوروبي، الذي أصبح ضعيفاً ومرهقاً وعاجزاً عن التعامل مع المشكلات الدقيقة كما يجب.

فإذا كان لدى روسيا أوكرانيا مدمّرة بالكامل على حدودها الشرقية، والتي سيتمكن الملايين من سكانها المسلّحين من الفرار ليس فقط إلى روسيا بل ايضاً إلى الاتحاد الأوروبي، مصطحبين معهم بعض العادات المسلّية مثل تهريب الأسلحة والمخدرات والإرهاب، وحينها لن يكون بمقدور الاتحاد الأوروبي البقاء على قيد الحياة.

لا يمكن لأوروبا أن تواجه الولايات المتحدة، لأنها مرتعبة من فكرة تدمير أوكرانيا. لذلك، وللمرة الأولى في تاريخ الصراع، يضطلع كلّ من هولاند وميركل إلى تحقيق تسوية سلمية أو على الأقلّ هدنة مع أوكراينا، وعدم الاستمرار في التمادي قدماً مع جنون الولايات المتحدة في مسألة فرضها العقوبات.

أما إذا التقطت أوكرانيا كرة النيران، فإنها ستشتعل بسرعة، وإذا ما أصبح الاتحاد الأوروبي شريكاً لا يحتمل لا بل جاهزاً لاتخاد موقف محايد في حال عدم رغبته الوقوف إلى جانب روسيا، فحينها ستكون واشنطن ملزمة بتطبيق استراتيجيتها ـ التي لطالما كانت مخلصة لها ـ وتعمل على إضرام النيران في كافة أنحاء أوروبا.

إنه لمن الواضح، أن سلسلة الحروب الأهلية هذه، بين عدد من الدول في قارة مليئة بشتى أنواع الأسلحة، حيث يعيش أكثر من نصف مليار شخص، ستكون أسوأ بمراحل من الحرب الأهلية الدائرة في أوكرانيا.

ليس في مصلحة روسيا ـ على الإطلاق ـ أن يمتدّ الصراع عبر المحيط الأطلسي إلى جبال الكاربات، في الوقت الذي لا تزال فيه المناطق الممتدة من الكاربات إلى دينبر مشتعلة. ومع ذلك، فإن أهداف بوتين تكمن في العمل على منع امتداد التأثيرات السلبية لحريق أوكرانيا إلى أوروبا. إذ يستحيل علينا القفز إلى مثل هذا الاستنتاج لأنه لو أرادت واشنطن إشعال النيران فستتمكن من ذلك . إنه لمن الضروري أيضاً أن نكون قادرين على إخماد الحروب بسرعة كي نتمكن من إخماد ما هو أثمن بكثير.

وبالتالي، وبهدف حماية مصالح روسيا، فإن بوتين يعتبر السلام العنصر الأكثر أهمية وحيوية، لأنه السلام الذي يجعل من الممكن تحقيق الأهداف الأهم بأقلّ تكلفة ممكنة. لكن، وبما أن السلام أصبح أمراً بعيد المنال، وأن المعاهدات أصبحت أكثر دقة، فإن بوتين يحتاج إلى إنهاء الحرب في أسرع وقت ممكن.

لكنني لا أريد التأكيد أنه من الممكن التوصل إلى حلّ وسط قبل سنة على أبعد تقدير مع الغرب قد تكون روسيا لا تزال قادرة الحصول على أهدافها إنما مع تنازلات بسيطة وفي أوقات لاحقة ، ليست ممكنة بعد الآن، والظروف تزداد سوءاً بشكل تدريجي. لكن ظاهريّاً لا يزال الوضع على حاله فالسلام لا يزال هو الأنسب لروسيا. تغيّر أمر واحد فقط، وهو على غاية كبيرة من الأهمية: الرأي العام. المجتمع الروسي يتوق لتحقيق النصر وكذلك للانتقام. وكما أشرتُ سابقاً، القوة الروسية قوة موثوقة أكثر منها سلطوية. ولهذا، فإن الرأي العام الروسي، على عكس «الديمقراطيات التقليدية».

قد يستطيع بوتين لعب دوره باعتباره محور نظام يحظى بدعم غالبية السكان. بينما إذا خسر هذا الدعم، في الوقت الذي لا يوجد بين النخبة السياسية من يحظى بإجماع الغالبية، فإن النظام سيفقد استقراره. لكن يمكن الحفاظ على السلطة ما دامت تجسّد رغبات الجماهير. إذاً، يمكن هزيمة النازية في أوكراينا، حتى لو كانت دبلوماسية، فيجب أن تكون واضحة ولا لبس فيها ـ إلا في ظلّ هذ الظروف ذات الحلول الوسطية الروسية الممكنة.

لذا، وبغضّ النظر عن الأمنيات البوتينية والمصالح الروسية، وبالنظر إلى التوازن العام للسلطة، فضلاً عن الأولويات والقدرات والأنصار، فالحرب التي كان لا بدّ لها أن تنتهي على الحدود الأوكرانية السنة الماضية، قد ينتهي بها المطاف للانتشار في كافة أنحاء أوروبا. يمكننا أن نتكهن من ذا الذي سيكون أكثر تأثراً ـ الأميركيون بنفطهم، أم الروس بقدراتهم على إخماد الحرائق؟ لكن هناك أمراً واحداً واضحاً للغاية: ستقتصر مبادرات السلام من القادة الروس على قدراتهم الفعلية لا فقط على أمنياتهم. ومن غير المجدي تحدّي رغبات الشعوب أو محاربة مجرى التاريخ لكن عندما يتزامنان، فإن الأمر الوحيد السياسي الحكيم الذي يمكن القيام به، فهم رغبات الناس واتجاه العملية التاريخية، ومحاولة تقديم الدعم لها في جميع التكاليف.

إن هذه الظروف التي وُصفت أعلاه، تجعل من المستبعد للغاية العثور على أنصار للدولة الروسية الجديدة، تلبّي رغبات المناصرين لها. ونظراً إلى حجم الاشتعال المقبل، الذي سيحدّد مصير أوكرانيا ككلّ ليس معقداً للغاية، وفي الوقت عينه، لن يكون رخيصاً وسهلاً المنال.

قد يكون من المنطقي أن نسأل الشعب الروسي ما يلي: إذا عاش الروسيون ـ الذين أنقذناهم من النازية ـ في «روسيا الجديدة»، اذاً لمَ قد يرغبون بالعيش في دولة مستقلة؟ لكنهم لو أرادوا ذلك، فلمَ على روسيا أن تعيد بناء مدنهم ومصانعهم؟ هناك جواب منطقيّ واحد على هذه الأسئلة: يجب أن تصبح «روسيا الجديدة» جزءاً من روسيا خصوصاً أنها تملك مقاتلين بما فيه الكفاية، على رغم أنّ الطبقة الحاكمة تبقى إشكالية كبيرة .

حسناً، إذا استطاع جزء من أوكرانيا الانضمام إلى روسيا، فلمَ لا تنضمّ بكاملها إليها؟ خصوصاً كما الحال في جميع الاحتمالات قبل. هذا السؤال هو على جدول الأعمال، فإن الاتحاد الأوروبي لن يكون بديلاً للاتحاد الأوراسي لأوكرانيا .

ونتيجة لذلك، فإن قرار الانضمام إلى روسيا سيُتخذ من قبل أوكرانيا الاتحادية الموحدة لا من قبل بعض الكيانات التي لا تتمتع بقرار واضح. وأرى أنه من السابق لأوانه إعادة رسم الخريطة السياسية. ومن المرجح أن ينتهي الصراع في أوكرانيا مع نهاية السنة الحالية. أما إذا قررت الولايات المتحدة أن يمتدّ هذا الصراع إلى الاتحاد الأوروبي وستحاول القيام بذلك ، فإن القرار النهائي للقضايا الإقليمية سيستغرق ما لا يقلّ عن بضع سنوات وربما أكثر.

بمقدرونا الاستفادة من السلام في ظلّ أيّ ظروف كانت. ففي ظروف السلم، ستنمو الموارد الروسية الأساسية، أما الحلفاء الجدد الشركاء السابقون للولايات المتحدة فسيصبحون إلى جانبها أكثر من أيّ وقت مضى، وعندما تصبح واشنطن أكثر هامشية، فإن إعادة الهيكلة الإقليمية ستصبح أبسط بكثير، وأقلّ أهمية بشكل موقت.

القيصر الجديد

مشى على البساط الأحمر، داخلاً قصر الكرملين كقيصر. صفّق له القوميون الروس طويلاً، واكتأب الديمقراطيون الجدد واليساريون، خارجين في زمهرير موسكو في تظاهرات صاخبة، احتجاجاً على إعادة انتخابه، فهم يرون في إتيانه إلى السلطة نعياً للديمقراطية، التي تعهّد الرجل بتعزيزها في خطاب تنصيبه الأخير.

يرى القوميون في فلاديمير بوتين محيياً أمجاد روسيا القديمة، ووريثاً لقياصرتها لا بل وبلشفييها، ويرى فيه الديمقراطيون واليسار مدمراً، وسداً «كيجيبياً» عنيداً، وحجر عثرة في وجه التحوّل الحتمي إلى المجتمع الديمقراطي.

تولى الرئاسة لثماني سنين متتالية. كلا، بل هو كان رأسها منذ أن اختاره بوريس يلتسين رئيساً لحكومة روسيا الاتحادية في آب عام 1999، وما أن استقال يلتسين في اليوم الأخير من عام 1999، حتى غدا بوتين الرئيس الفعلي للبلاد.. وهو يديرها حتى هذه الساعة، دع عنك الانتخابات، وما أدراك ما الانتخابات.

فهذا الرجل، الذي أمسك بزمام الرئاسة بشكل علنيّ بعد أربع سنوات، وكان يديرها من وراء حجاب، ربح الرئاسة بنسبة كبيرة فاقت 63 في المئة.

فلاديمير بوتين، كان عمره ثماني سنوات بالتمام والكمال، عندما ضرب الرئيسُ السوفياتي الراحل نيكيتا خوروشوف الطاولة بحذائه في اجتماع للأمم المتحدة عام 1960. حركة كانت جريئة في حينها، ولكنها كانت أحد الأسباب التي وضعتها اللجنة المركزية في توصياتها بتنحية هذا السياسي عن الحكم. لذا فإن نفحات الخوروشوفية ودخانها لفحاه. ونشأ في ظل التجاذبات التي كان الاتحاد السوفياتي يشهدها ممثلاً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي والصراع الذي كان دائراً على السلطة داخله.

لم يكن الرجل دخيلاً عن السلطة، فقد تسنّم مواقع سلطوية كثيرة، وكان يقفز من موقع إلى آخر بسرعة. فبعد إنهائه بنجاح المرحلة الجامعية متخرجاً في كلّية القانون، أدّى الخدمة الالزامية في هيئة أمن الدولة، ثم عمل في جهاز الاستخبارات العتيد «كي جي بي»، وفي هذا العالم المتناهي، عمل في فرع «الاستخبارات الأجنبية». بعد ذلك كانت الفرصة مواتية لإرساله إلى العمل في ما وراء الحدود، إلى الجمهورية البائدة «ألمانيا الشرقية»، حيث بقي فيها من عام 1985 حتى رأى أمام أنظاره انهيار دولته القوية وسقوطها بنهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي. ولكنه ما أن عاد حتى صعد نجمه، وبدأ يخطو خطوات متسارعة نحو السلطة. فكانت أولى محطاته الجامعة التي تخرّج فيها «لينينغراد»، متولياً منصب مساعد رئيس الجامعة للشؤون الخارجية، لكنه قفز فجأة ليصبح مستشاراً لرئيس مجلس المدينة. وفي آب عام 1996 كان مسؤولاً للشؤون الإدارية في الرئاسة الروسية.

ولكنه لم يبق في هذا المنصب سوى سنة واحدة حتى غدا نائباً لمدير مكتب الرئيس الروسي ورئيساً لإدارة الرقابة العامة في هيئة الرئاسة. ثم أضحى نائباً أولاً. وفي 1998 عيّن مديراً للأمن في روسيا الاتحادية.

لقد غدا لسان حال بوتين وهو يمضي من منصب إلى آخر قائلاً:

على عجل كأنّ الريحَ تحتي

أسيّرها يميناً أو شمالا

يبدو أنها ألفية مباركة على بوتين، فهل يا ترى مباركة على الروس؟ فللروس سوابق مع الرقم 17. قبل أن تنتهي ولاية بوتين الأولى ذات السنوات الستّ، سيكون هذا الرقم ماثلاً أمامهم هم ورئيسهم. إنها الذكرى المئوية لثورة البلشفيين التي كسّرت نظام القياصرة. أمام بوتين أقل من خمس سنوات لإصلاح روسيا، والبحث عن سبل لتحسين الوضع المعيشي، والحدّ من تكميم الأفواه، وإنعاش الاقتصاد، وإعادة مصانع روسيا العظمى إلى سابق عهدها للقضاء على البطالة، وقطع دابر الجريمة المتفشية في هذا البلد الشاسع ومترامي الأطراف.

هل يضحي الروس بالديمقراطية الغربية، في سبيل الوصول إلى المجد القديم.. روسيا القيصرية أو حتى الشيوعية؟!

ولكن حتى وإن حاول الروس السير نحو أفق الديمقراطية، فإن عينَي رئيسهم مركزتان على أمجاد روسيا، والفرق شاسع بين أن تكون أعين الشعب مصوّبة نحو التحرّر والانعتاق من زمن الستارة الحديدية، وبين أن تكون عينا الرئيس رهينتَي المحبس المؤثل.

وعلى رغم أن رجل الكرملين تقلقه المعارضة، وتفسد عليه نومه، لدرجة أنه نعتها بأنها تنفذ أجندات خارجية، إلا أنه يبدو أن الرياح الآن تجري بما يشتهي بوتين الذي وجّه اتهاماً مباشراً لا لبس فيه إلى الولايات المتحدة، وقال إنها من يدفع هؤلاء الناس إلى التظاهر. وكال الاتهامات إلى وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك هيلاري كلنتون أيام الانتخابات الروسية، مشيراً إلى أن «هناك من يستمعون إلى تصريحاتها، فيسعون إلى إثارة الاحتجاجات والتظاهرات. فهي تقول إن الانتخابات ليست نزيهة على رغم أنها لم تتلق تقارير من المراقبين». وفي لهجة تحذيرية قال: «إن بلادنا يجب أن تزيد من يقظتها في التصدّي للجماعات الأجنبية التي تؤثر على سياسة البلاد الداخلية، وينبغي سوق هؤلاء إلى المحاكمة».

ومضى بعيداً حين قال في كانون الثاني، إن العالم مهدّد بظهور «قوى هدّامة في بعض دول العالم، هاجسها تقويض أمن الشعوب واستقرارها». وفي إشارة على ما يبدو لأميركا والغرب عموماً قال إن هناك دولاً «تنتهك القانون الدولي وسيادة الدول، عن طريق التدخل العسكري المباشر، تحت ذريعة الدعوة إلى الديمقراطية، وفي هذا، فهي لا ترى نفسها أنها تنتهك بذلك حقوق الإنسان».

وفي ظلّ هذه الفوضى المالية، والتردّي الاقتصادي، يشعر بوتين بشيء من القوة، ويرى أن بلاده ما زالت تملك الفرصة في تحقيق النمو الاقتصادي المطلوب، فلسان حاله يقول: هل تودون أن تكونوا مثل جيرانكم من الأوروبيين الذين يترنحون؟!

هل الروس يحنّون إلى أمجادهم القديمة، وهل يرون في ضابط الـ«كي جي بي» معيدهم إلى ماضيهم التليد؟

خرج الروس في تظاهرات عارمة، رأى فيها كثيرون من المحللين أن «ربيعاً روسياً» على غرار «الربيع العربي»، يدهم الكرملين وقادته، وينذر بالتغيير في هذا البلد الذي حكمه عتاة الشيوعية وجلاوزتها بالحديد والناس. لقد ودّ هؤلاء تنفس هواء الحرية الذي حرموا منه طويلاً. ولكن القيصر عرف من أين تؤكل كتف المعارضة. وفي المقابل هناك كلام عكس هذا تماماً. وأنصاره هم القوميون الروس الذين يدعون إلى ستارة حديدية من نوع آخر تعيد إلى البلاد هيبتها ومجدها التليدين.

هيّأ الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفديف الأمر لبوتين، ونظّف له الساحة أمامه حتى لا يصطدم مع أحد. فلا مجال له للعراك والصراع. فقبل أن يترك الكرملين بسويعات محدودة، أصدر أمراً بتعيين الأميرال فيكتور تشيركوف قائداً للبحرية الروسية، بينما صار الجنرال فيكتور بونداريف قائداً للقوات الجوية. وكان الرئيس الروسي قد أصدر قراراً في نيسان الماضي 2012 ، يقضي بتعيين الجنرال آلكسندر بوستنيكوف قائداً للقوات البرّية، في ما فُهِم أنه تهيئة لما يتماشى مع طموحات بوتين الذي يصرّ على تحديث الجيش الروسي ومدّه بكل الأسلحة والمعدّات الحديثة.

كل الأمور هُيّئت قبل قدوم بوتين إلى الكرملين، حتى صواريخ أرض ـ جو «أس أس 400» الجديدة أخذت مواقعها حول العاصمة موسكو كذراع صاروخية لحماية العاصمة.

ويرى مراقبون أن هذا الاتجاه ربما كان سيقابل ببعض المعارضة والرفض من داخل القوات المسلحة، لذا فإن مناصري بوتين تحرزوا لهذا، وتداركوا الأمر قبل أن يتولّى بوتين المنصب الرئاسي. فيجد كل شيء جاهزاً من دون أيّ إحراجات. فرجل روسيا القويّ يبدو أنه لا يتحمل المشاحنات والشدّ والجذب. هو يريد أن ينفّذ برامجه بهدوء وسكينة.

لقد وضع هذا الرجل وبالأرقام برنامجه التسليحيّ المخيف. وكأنه بهذه الخطوة يعلن ميلاد روسيا الجديدة.

ويقول مراقبون الشأن الروسي، إن بوتين ما كان له أن يهنأ في منصبه من دون أن يتخلص من مردوخ روسيا فلاديمير جوسينسكي الذي كان رئيساً للمؤتمر اليهودي الروسي، وكان قيصر الإعلام في روسيا. لكن تسوية حدثت في ما بعد، هُرّب على إثرها جوسينسكي إلى «إسرائيل»، بعد تمكنه من بيع وسائل إعلامه.

هوامش

عبد الجليل الساعدي، كاتب صحافي وإذاعي، عمل كاتباً ومقدّماً للبرامج الثقافية واللغوية. اشتغل في بعض الصحف منها: «الشرق الأوسط» و«الزّمان» و«المشاهد» الصادرة في لندن. كان يكتب عموداً أسبوعياً في «الزمان». يدرّس في بعض الكلّيات والجامعات البريطانية. نال شهادتَي الدكتوراه والماجستير في لندن، وأتمّ دراسته الجامعية في طرابلس ـ ليبيا.

«المجلة»، مجلّة تصدر شهرياً بالعربية والإنكليزية والفارسية في لندن.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى