يغادر حزنه وحيداً

سلوى عبّاس

بصمت، ومن دون ضجيج، غاب ياسين رفاعية. أعلن رحيله بنبل وترك أهله ومحبّيه وكلّ ما جاهد من أجله في الحياة، لعله يكون ذكرى أو رسالة يكملها أحد من بعده. توقف ينبوعه دفعة واحدة عن التدفّق بعد سأم أصاب روحه فأعلن النهاية.

كم يبدو الغياب ثقيلاً وغير محتمل حين يدقّ الموت باب يومنا معلناً نفسه ضيفاً مقيتاً لا نستطيع التآلف معه، لكننا نتقبله بامتعاض يرافقنا مدى الحياة. هذا الزائر الذي يقيّدنا بسلاسل من استسلام لا يمكننا الفكاك منها، فقد رحل الأديب رفاعية تاركاً تاريخاً إبداعياً في فنون الأدب المتعددة.

رحل ياسين رفاعية، وربما في اتكائه على الموت يكون قد قرّر الإبحار في رحلة استكشافية جديدة. رحلة من الصعب التصديق أنها الرحلة التي لن يعود منها، بعد أن قضى عمره أسير حلمه ـ مشروعه الأدبي فحكايته مع الكتابة هي حكايته مع الحلم الذي رافقه منذ الصغر. هذا الفنّ المضمّخ بروحانية تسمو بالذات وتطلقها من أسْر التفاصيل المملّة إلى عالم الجمال الرحب. فالكتابة بالنسبة إليه كانت الرئة التي يتنفّس الحياة من خلالها، فهو لم يكتب من أجل الشهرة، بل من أجل التواصل مع الناس ولو عن بعد، لذلك كانت الكتابة بالنسبة إليه فعل حبّ بالدرجة الأولى، وعندما كانت تلحّ عليه الغربة والوحدة، لم يكن من رفيق يلجأ إليه إلا الكتابة كطقس يمارسه حيث لم يكن قد تجاوز السبعة عشر عاماً، يوم بشرت الجائزة التي نالها عن قصته «ماسح الأحذية» التي شارك بها في مسابقة أعلنت عنها مجلة «أهل النفط» التي كانت تصدر في بغداد ويديرها الكاتب جبرا إبراهيم جبرا، ومن يومها وجّه بوصلته باتجاه الكتابة، وقد خدمه عمله في فرن والده ومن ثم في محل لصناعة الأحذية، بأن وفرّ له الكثير من الحكايات التي كانت قصصاً حقيقية لأشخاص عايشهم عن قرب وعاش معهم. فأصدر عام 1960 مجموعته القصصية الأولى «الحزن في كل مكان»، حيث كان الواقع المرير الذي يعيشه الناس هو أسّ الحكاية في قصصه الأولى، وبعدها أخذت الكتابة لديه بعداً أكثر عمقاً، وابتكر أساليب جديدة في القصّ والتعبير عن آلام الناس التي كان يوثقها بأسلوب شيق ولغة شعرية حزينة. وفي عام 1963 أصدر مجموعته الثانية «العالم يغرق» حيث كان كل شيء يغرق ويخيب آماله.

في سبعينات القرن الماضي قادته الحرب الأهلية اللبنانية إلى عالم الرواية فكانت روايته «الممر» التي وثّق من خلالها أحداث هذه الحرب بكل تفاصيلها، ثم توالت أعماله الأدبية التي تراوحت ما بين الرواية والقصة والشعر، وقد كتبت الكثير من الدراسات النقدية حول تجربته الأدبية فأغنت هذه القراءات تجربته وصقلتها ومنحتها التجدّد.

لم يكن الأديب رفاعية يسعى بشكل مباشر إلى الإدهاش والتشويق في أدبه، بل كان يكتب نفسه كما هو، كان ينقل إلى القرّاء نبضه وكل ما يختلج في روحه، من دون أن يفقد خصوصيته التي كانت تحضر حتى في الشأن العام. فجمهوره كان من الناس الذين يشبهونه.

الموضوعات التي تناولها رفاعية في أعماله حملت جرأة تجلّت بالتحريض على الوعي، والانفتاح على الداخل الإنساني، وهذا الموضوع لم يكن لديه حدود عنده، فقد كان عالمه من الفرادة والتميز أنه استطاع أن يتمثل ما عرفه ويفيد منه جيداً، فشكّلت نسيجاً متآلفاً في القصة القصيرة امتاز بشيئين ثمينين الأول هو هذه الرؤية المنفردة للواقع، واقع القهر والتخلف وافتقاد الحاجات الأساسية والتوق إلى إشباعها، والثاني هو هذه الصياغة الشعرية التي تستخدم عناصر الواقع حيناً فتجعل من تراكمها عالماً شعرياً موحياً أو تكثفها حيناً وتقدم لها مقابلاً تعبيرياً نابضاً بالحياة لا توليداً ذهنياً فاتراً يفتقد الصدق والحرارة.

كان الأديب الراحل ياسين رفاعية يقول «ولدت وفي فمي ملعقة من حزن» وهو الذي عانى من الحزن والفقد كثيراً حيث كان لرحيل زوجته المبكر ومن ثم رحيل ابنته وقعه الصعب على قلبه وروحه، وها هو اليوم بعد أن أثقلت عليه الحياة الكثير من التعب والوحدة، يرحل تاركاً حزنه وحيداً.

كاتبة وإعلامية سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى