ثقافة المواجهة وفلسفة الصراع

نظام مارديني

التعبير الأمثل للفلسفة السورية يتمثل في رافدين أساسيين هما المسيحية والمحمدية. هاتان الديانتان السماويتان هما في جوهرهما التوحيدي ديانة واحدة في رسالتين، انطلقتا من سورية في أكبر حركة مسكونية أمميّة تدعو إلى إلغاء الوثنية والانصهار في الإيمان التوحيدي.

الدعوة الأمميّة هذه لم تنطلق وتنتشر في العالم على قاعدة إلغاء الآخر لمصلحة سيادة الذات، بل على قاعدة إنسانية تدعو إلى المشاركة في تفاعل يؤدي إلى انصهار تتولد منه ذات إيمانية جديدة تتيح لشعوب العالم أجمع المشاركة في خلاص النفس البشرية.

هذا البعد الإنساني لفلسفتنا الثقافية يُقابله لدى اليهود في هذا الصراع الحضاري فلسفة ثقافية متجمدة تشكل نقيضه، إذ تقوم على منطق الإلغاء السلبي للآخر، وعلى منطق الاستئثار دون الآخر بكل شيء، حتى الله. فهو في منطقهم الإيماني إله اليهود دون غيرهم من البشر، اصطفاهم شعباً مختاراً دون سائر الأمم، وأوجد لهم كل نعمة وسخر لخدمتهم سائر الشعوب.

إنها ثقافة لا تعترف بالآخر ولا تقر تفاعلاً معه، وفق منطق التناقض العنصري في الجنس البشري بين السيد الموعود إلهياً والعبد المسخر إلهيّاً لخدمة هذا السيد.

هذا التناقض بين حضارتي السلب والإيجاب لا يمكن أن يولّد تعايشاً طالما أنه لا يؤدي إلى الانفتاح، وبالتالي لا يحمل في خصائصه مقومات تفاعل.

منطق الأمور يؤكد على أن تلاقي السلب والإيجاب لا يتم إلا بالصراع بينهما، فطالما هناك سلب وإيجاب هناك صراع، ولا نهاية لهذا الصراع إلا بسقوط واحد من هذين القطبين النقيضين، وهذا ما تحاول الثقافة السلبية اليهودية أن تحققه عبر مشروعها التفتيتي في المنطقة، على قاعدة سيادتها هي وإلغاء ثقافتنا الاجتماعية الإيجابية.

بهذا المنطق الحتمي يمكننا التأكيد على أنه مثلما كان الصراع العسكري وسيلة في محاولة إلغاء كياناتنا السياسية لحساب قيام الكيان الإمبراطوري اليهودي على كامل جغرافيتها، فإن المشروع التفتيتي المفروض علينا يشكل في أهدافه الأساسية وسيلة لإلغاء ثقافتنا المجتمعية الإيجابية لمصلحة سيادة الثقافة اليهودية السلبية.

حضارتنا القائمة على الفلسفة الإيجابية للثقافة المجتمعية نجحت في ترسيخ جسور تفاعل وصلت إلى تحقيق الانصهار مع الحضارات التي وفدت إلينا، أو تلك التي أقبلنا عليها، عبر تاريخنا الطويل، لكنها فشلت، ليس في مد جسور التفاعل مع العقلية اليهودية فحسب، بل حتى في تحقيق أصغر منصة للتعايش. أسباب هذا الفشل لا تكمن في ذاتنا الثقافية بل في الذات الأخرى، وهذا هو المقوّم الثابت للصراع الثقافي الحضاري في المرحلة المقبلة، لو قدّر للمشروع اليهودي التفتيتي أن يتحقق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى