مقالات وآراء

مرتكز الخطة الاقتصادية التي يحتاجها لبنان بعد درس كورونا وفشل سياسات النيوليبرالية

} حسن حردان

مع الحديث عن انهماك الحكومة بالعمل على وضع خطة اقتصادية للنهوض بالاقتصاد اللبناني، الذي يعاني من أزمة عميقة تجسدت بوصول الدولة الي مرحلة العجز عن الاستمرار في دفع استحقاق الدين والفوائد المترتبة عليه، وبالتالي العجز عن مواصلة سياسة تثبيت سعر صرف الليرة ازاء الدولار، واستطرادا تفاقم الأزمة الاجتماعية.. بعد ذلك يتوجب التأكيد على بعض الحقائق الهامة، التي يفترض ان تأخذ بعين الاعتبار خلال مناقشة الخطة الاقتصادية.. وهذه الحقائق هي..

الحقيقة الأولى، وهي من الأمور الاساسية التي اكدتها تجارب تطبيق وصفة النيوليبرالية الأمريكية في السياسات الاقتصادية للكثير من الدول، التي سحرت بهذه الوصفة، ومنها لبنان،  البرهان، بما لا يدع مجالا للشك، ان هذه الوصفة مولدة للأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية، كونها  ترتكز على الاقتصاد القائم على الريع والخصخصة، والمزيد من الضرائب غير المباشرة، وإهمال تام لقطاعات الانتاج، من زراعة وصناعة.. لقد كان من بديهيات الأمور أن تقود هذه الوصفات إلى تدمير قطاعات الانتاج، وتراجع مداخيل الدولة، والتسبب بالعجز المستمر في الميزان التجاري، حيث بات لبنان يستورد ما قيمته ٢٠ مليار دولار، ويصدر نحو ٣ مليارات دولار، وكان يجري معالجة هذا العجز عبر الاستدانة التي ادت بدورها إلى التسبب بعجز في الموازنة العامة للدولة، اخذ يتزايد عاما بعد عام حتى بلغ مستويات لم يعد بالإمكان التعايش معه وتحمله.. واستنزاف احتياطات البلاد من العملات الصعبة.. فبات لبنان يئن من أزمات مالية، واقتصادية، واجتماعية، غير مسبوقة في تاريخه الحديث.. فكان انفجار انتفاضة ١٧ تشرين الاول الماضي بمثابة تعبير صارخ عن حجم الازمة العاصفة بالبلاد.. وتوقف لبنان عن دفع سندات الدين والفوائد..

الحقيقة الثانية، اذا كان النموذج النيوليبرالي الريعي قد تأكد فشله قبل اندلاع الحرب العالمية مع فايروس كورونا ، فإن أحد أهم دروس كورونا هو تأكيده مجددا سقوط هذا النموذج الريعي، حيث تبين ان الدول التي تعتمد النهج النيوليبرالي، كانت عاجزة عن مواجهة كورونا، بسبب تخصيص الخدمات الصحية والاجتماعية، وتخلي الدولة عن القيام بهذه الوظيفة.. ولهذا وجدنا الولايات المتحدة، وهي الدولة الأكثر تطورا والاقوى، تفتقد الامكانيات والمستلزمات الطبية لمواجهة اجتياح كورونا لها، وهو ما حصل أيضا في العديد من دول أوروبا، والسبب ان الدول النيوليبرالية تخلت عن القيام بدور الرعاية الصحية والاجتماعية لمصلحة القطاع الخاص، فكان من البديهي ان لا تكون بناها الصحية مستعدة ومجهزة لمواجهة أزمة من هذا النوع وبالتالي ينكشف عجزها وهشاشتها.. على أن الازمة كشفت في لبنان، مدى ضعف بنى القطاع الصحي التابع للدولة، والنقص الكبير في احتياجاته ومستلزماته، والتي يجري التعويض عنها اليوم بالمساهمات من قبل بعض الاحزاب الوطنية، والتي يأتي في مقدمها مساهة حزب الله الذي قدم القدرات والامكانيات والتجهيزات والكادرات الطبية والخدمات الاجتماعية الهامة والكبيرة، التي استنفرها ووضعها في خدمة الحرب ضد كورونا.. كما تأتي بالدرجة الثانية مساهمة التيار الوطني الحر، وغيرها من المساهمات الحزبية، كل ذلك ساهم في تخفيف الاعباء عن كاهل الحكومة..

الحقيقة الثالثة، تأكد مدى الحاجة الماسة للعودة إلى الاقتصاد الإنتاجي باعتباره هو مصدر إنتاج الثروة وتحقيق النمو الحقيقي، واستطرادا توفير فرص العمل.. لاسيما ان الدول في مرحلة الأزمات الكبرى في العالم، والتي تفرض اهتمام الدول باوضاعها الوطنية، ينحول الانتاج الزراعي والصناعي المرتكز الأساسي للصمود وتأمين الاحتياجات الاساسية، وهو امر تم تلمسه بشكل واضح في الجمهورية الإسلامية الايرانية، التي لم تكن لتنجح في مواجهة انتشار وباد كورونا، رغم استمرار الحصار المالي والاقتصادي الأمريكي الاجرامي، والذي يشمل المستلزمات والاجهزة الطبية،  لو لم تبن اقتصادا تنمويا انتاجيا، وتحقق الاكتفاء الذاتي من احتياجاتها الاساسية، ولو لم تملك الدولة فيها البنية الصحية والاجتماعية التي قامت بدور جبار في مكافحة الوباء ومحاصرته وتوفير المساعدات الاجتماعية لملايين الإيرانيين من ذوي الدخل المحدود..

ان هذه الحقائق تستدعي من الحكومة وهي تنكب على دراسة الخطة الاقتصادية، ان تأخذها باعتبارها اساسا يجب أن تبني على أساسه الخطة.. لانه لا يجوز مطلقا ان نعود إلى إنتاج نفس السياسات التي تسببت بالازمات الخانقة للاقتصاد والمجتمع على حد سواء.. كما أن الحكومة اذا كانت تريد فعلا ان تكون حكومة إنقاذ اقتصادي ونهوض عليها ان تبني خطتها بالاستناد إلى النتائج والخلاصات التي اكدتها وتمخض عنها انتهاج لبنان السياسات النيوليبرالية الريعية منذ عام ١٩٩٣ وحتى اليوم، والتي تؤكد ان الإبتعاد عن التنمية ودعم الانتاج الوطني كان هو السبب الأساسي في الازمات العاصفة بالبلاد على غير صعيد.. كما أن اي خطة للنهوض تكون ركيزتها الاقتصاد الإنتاجي يجب أن ترتبط، ايضا بالضرورة، بحزمة من الخطوات لتوفير وسائل الدعم للزراعة والصناعة، وتكنولوجيا المعلومات، وبالتالي العمل على إيجاد الأسواق لتصدير المنتجات والسلع اللبنانية، وهذا يتطلب بالضرورة الاتصال بالحكومات العربية بدءا بالشقيقة سورية، ممر لبنان البري إلى الاسواق العربية، لاسيما العراقية والخليجية.. فالانفتاح على سورية مصلحة لبنانية بالدرجة الأولى.. وان الحكومة يجب أن تضع باعتبارها ان لا خيار اخر أمامها للنهوض بالاقتصاد الوطني سوى التوجه شرقا بداية بسورية، مرورا بالعراق وإيران، ووصولا إلى الصين وروسيا.. لاسيما وان المراهنة على انتظار مساعدات خارجية من دول الغرب إنما هي مراهنة عقيمة، خصوصا بعد الازمة التي تعصف باقتصاديات الدول الغربية، كما غيرها من الدول، نتيجة حرب كورونا، التي ادت إلى ركود في الاقتصاد العالمي وخسائر تقدر بعدة تريليونات من الدولارات.. ولهذا ان أوان اتخاذ قرار الاتجاه شرقا.. حيث بات، ينتقل اليه، مركز الثقل في الاقتصاد العالمي، والعديد من الدول في العالم أصبحت تبني سياساتها وتوجهاتها على هذا الأساس.. حتى الولايات المتحدة، مثلا، لا تستطيع مقاطعة الصين، ومضطرة إلى التفاهم معهما، لتنظيم العلاقات التجارية معها، فيما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اضطر، بعد انكشاف النقص الكبير في قدرات أمريكا على مواجهة انتشار كورونا، الى الاتصال بنظيره الصيني شي جين بينغ وطلب المساعدة منه.. في الوقت نفسه لجأت إيطاليا وفرنسا وإسبانيا إلى طلب المساعدات الطبية من الصين التي ارسلت الخبراء واطنان المعدات والتجهيزات الطبية إلى هذه الدول، وغيرها.. والتوجه شرقا لا يعني القطيعة مع الدول الغربية، وإنما يجب تبني الحكومة علاقاتها مع كل دول العالم، وتنهج نهجا متوازنا ، ينطلق من مصلحة لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى