الوطن

أهل الطوائف كثر..

فأين أنصار الوطن؟

} د.وفيق إبراهيم

مؤيّدو الطائفيّة السياسيّة يتضاعفون في لبنان على وقع صراعين اثنين هما داخلي بين قوى السياسة اللبنانية المستندة الى دستور تفريقي وجغرافيا اجتماعية ـ دينية تحمي الانعزال، فيما تدعم التغطية الخارجية التنافس الداخلي الطائفي وبهذا الوضع فقط.

هذان النمطان يسيطران على لبنان منذ تأسيسه في 1948 لكنهما يزدادان حدة كلما استشعرا بصعود نمط ثالث للصراع يهدد استمرارهما بشكل جدي.

وهو انبثاق اتجاه معادٍ للطائفيّة السياسية، رافعاً شعار الاندماج على مستوى وطني لبناني لم يتمكن من الظهور بعد قرن كامل من اعلان دولة لبنان الكبير في 1921. للإشارة فإن الانعزال ليس مسيحياً صرفاً بقدر ما يشمل كامل المذهب بحركتها الداخلية واصطفافاتها الخارجية.

نحن إذاً وسط كونفدراليّة طوائف تعمل بدقة «ساعة» متطوّرة، فتشحن حركة عقاربها عند اللزوم. وتهدئ من اضطرابها عند انتفاء الحاجة برعاية مراقبين خارجيين يؤمّنون الدعم لها في كامل أوضاعها.

هذا الوضع لم يعُد اليوم على الرتابة نفسها، بسبب نقص واضح في الدور الخارجي الذي أصيب بتراجع إنتاج النفط وأسعاره وما تسبّبت جائحة الكورونا.. ومع اضافة الانهيار الاقتصادي الذي جعل معادلة الطائفية السياسية في لبنان في وضع مقلق، لأصحابها.

هذا هو المناخ الذي يسمح بولادة انتفاضة كان من الطبيعيّ جداً أن تبدأ صغيرة وتتعثر أكثر من مرة ويخترقها طائفيّون ونفعيّون ومتآمرون كحال ما تعرضت له الانتفاضات العالميّة قبل تحوّلها ثورات تغيير فعلية.

لذلك بدا لبنان مؤخراً أمام قوى الطوائف السياسية وهي تتصارع لتجديد معادلتها التاريخية على اساس اضافة المستجدات الإقليميّة والداخليّة التي يستفيد منها بعض القوى على حساب تراجع أحجام قوى أخرى، ولم يعيروا الانتفاضة اهتماماً كافياً معتقدين أنها حركة استعراضيّة لا تشكل خطراً فعلياً.

لكن الانسداد في حوار قوى الطوائف يتفاقم حتى أدرك سقفاً شديد الخطورة بدأت «ماكينات التحليل السياسي» الموجّهة من أحزاب المذاهب بالإشارة الواضحة لتهيئة الناس حتى يتقبّلوا المجريات المتسارعة فيقولون بوقاحة إن لبنان امام احتمالين: الأول هو التفاهم التقليدي الداخلي، على اساس تعديلات تتعلق بما طرأ على أحجام هذه القوى، أما الثاني فذهاب نحو الجمع بين كونفدراليّة دستورية يُضاف اليها تثبيت كونفدرالية جغرافية في إطار الممكن.

هنا لم يخجل اولئك المحللون من تأكيد أن هذا الوضع طبيعيّ مشابه للوضع في العراق، بين ولاية كردية وأخرى سنيّة وثالثة شيعيّة.

لا تعمل على التمييز الديني والسياسي والمناطقي بين اللبنانيّين، ترحل قوى الطوائف بكامل تنوّعاتها نحو تبني معادلات دستورية وكيانية اشد خطراً على اللبنانيين من المعادلة التقليدية المعمول بها حالياً.

فبدت وكأنها تعمل على تجسيد التغيرات التي طرأت على المعارك في الإقليم لجهة التراجع الأميركي.

هنا، كان معتقداً ان الاتجاه التوحيديّ الداخليّ في لبنان هو القابل للانتصار والتعبير عن مشروعه سياسياً، لكنه بدا، وبعكس المنطق، راغباً بالتوغل بعيداً في لعبة كونفدرالية طائفية لها بعدان دستوري وجغرافي، وهنا تكمن مصيبة إضافية في معاناة البحث عن ملامح وطن لبناني في جهنم الطوائف وألاعيبها.

هذه المعادلة لها طرفان يستفيدان من استمرار بعضهما بعضاً، فالتعددية الطائفية في الداخل متأكدة ان الخارج الإقليمي والدولي لا يتخلى عنها، لأنها تؤكد على نفوذه في لبنان امتداداً الى الجوار السياسي، والحرص على سلامة الكيان الاسرائيلي في فلسطين المحتلة مع ممارسة نوعين من العلاقات مع سورية، تأييد كامل من بعض قوى الطوائف لسورية ورفض كامل من قسم لبناني آخر لها، وكلا الطرفين عاجز عن تحقيق كامل ما يريده سورياً ـ مكتفياً بما هو ممكن حتى حدوث تغييرات إقليمية مؤاتية تبيح له فرض أمانيه على العلاقات مع دمشق.

لجهة فريق الطوائف السياسي اللبناني يعرف الى حدود عميقة، أن المظلة الخارجية لا تتخلى عنه وحريصة أكثر منه على عدم نشر الفوضى، التي قد تتحول الى مناوشات وحروب صغيرة ترمي بتبعاتها على الإقليم بأسره بما فيه الكيان المحتل.

يتبين بالاستنتاج ان الفوضى الداخلية ممنوعة، والاتفاق الداخلي الكامل متعذّر وصعب والدعم المالي الممكن توفيره للبنان قليل وممرحل ومسيّس. فالوضع الداخلي إذاً هو في مرحلة غير مستقرة الى حدود الاضطراب الفعلي وكأنه بخار يغلي بشدة داخل «طنجرة الإقليم» وهذا الأخير يمنعها من الانفجار. هذا إلى جانب حزب الله بصفته ممثلاً لقوته الداخلية والخارجية من جهة وبوكالته عن حليفيه الإيراني والسوري.

من جهة ثانية يعمل من جانبه على اطفاء الحرائق التي تحدثها الصدامات على المصالح بين حلفائه والقوى الداخلية المرتبطة بالخط الأميركي السعودي، كما يضغط لعقد تسويات بين حلفائه أنفسهم المختلفين بدورهم على التحاصص الوظيفي، وفوائد التلزيمات العامة.

لا شك في أن الهدنة الداخلية مقبلة على متن قروض خفيفة غير بنيوية من صندوق النقد الدولي ومؤتمر سيدر مع قليل من التسييس وذلك بسبب موازين القوى التي تجنح لمصلحة حزب الله والمنجذبين إليه.

لكن صعود الفقر والجوع والبطالة التي أدركت معدل الخمسين بالمئة بين الشباب، مع احتمال ارتقائها لمعدل الثمانين في المئة في مطلع آب المقبل، هذه عناصر تترقّب انتفاضة شعبية حقيقية، تحملها لتصبح الجزء الأكثر أساسيّة في توازنات الداخل، وتفرض حجمها على قوى طائفية داخلية تتوهم أنها قد تبقى الأقوى الى الأبد، ولن تبقى لأن الجوع سبق له وأطاح بإمبراطوريّات لا تشكل القوى اللبنانية جزءاً ضئيلاً من إمكاناتها.

إن لهذا الجوع فوائد اقتصادية وسياسية ووطنية، فهو السلاح الوحيد لإرغام الداخل والخارج على تلبية الحدّ الممكن من حاجات اللبنانيين، كما أنه الآلية الضاغطة لتحسين المعادلة السياسية التي قد تصبح طوائفيّة بمظلة خارجية مع ممثلين للجوع تغطية داخلية فقط.

اما ميزة الجوع الثالثة فهي أنه عابر للطوائف ومتجرّد من سيئاتها ودافع نحو شعور موحّد بين قواعد شعبية من كل الطوائف، تحتاج الى انتماء جديد له بالطبع جذوره التاريخية والجغرافية.

اليس وفق هذه الطريقة يجري بناء الأوطان؟ بذلك يمكن الجزم بأن الفقر سلاح أساسي لإلغاء معادلة الطوائف مع ترقّب ولادة وطن جديد من الإقليم هو لبنان الكبير فعلاً بمواطنيه لا بأبناء طوائفه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى