أولى

الاستثمار في الأزمات…

 سعادة مصطفى أرشيد _

الدبلوماسية هي علم من علوم السياسة المختصّ بالعلاقات الدولية وإدارتها، وكان من تطوراتها المهمة ما أطلق عليه دبلوماسية إدارة الأزمات، وهذا العلم يتطلب المعرفة والإحاطة الشاملة بدقائق الأمور وتفاصيلها لا السياسية والعسكرية فقط، بل أنه عندما تحدث أزمة أو حرب بين دولتين يقوم بلد ثالث لا علاقة مباشرة له بالأزمة بإدارتها واستثمارها ليكون الرابح دون استثمار برأسمالها ودون أن يتحمّل أكلافها .

وضعت الحرب الروسية الأوكرانية قوى عديدة في مواقف صعب لا تُحسد عليه، إذ تملي عليها عقيدتها ورؤاها الاستراتيجية الوقوف إلى جانب أوكرانيا، فيما تضطرها حاجاتها ومصالحها إلى التزام الحياد الذي هو في حقيقته في صالح موسكو، من هذه القوى نرى السعودية التي حاولت لوقت قصير مناكفة الإدارة الأميركية الديمقراطية بعدم زيادة إنتاج النفط بهدف المحافظة على سعره، والإمارات التي تريد أن تدرأ خطر الصواريخ اليمنية، ومنها بالطبع أوروبا التي مهما ابتعدت عن الولايات المتحدة إلا أنها تبقى اقرب إليها من أية قوة كبيرة أخرى، ولكن صناعاتها واقتصادها ومواصلاتها ودفء مواطنيها يعتمد على الغاز والنفط الروسيين، وإمكانية إيجاد بديل له ستأخذ وقتاً ومالاً وسيكون أعلى سعرا، فيما هي لا تستطيع التوقف عن استيراد الغاز والنفط الروسيين ولو لفترة قصيرة.

ومن هذه القوى “إسرائيل”، ففي حين أنها الابنة المدللة للإدارات الأميركية المتعاقبة كما تمثل امتداداً استراتيجياً واقتصادياً وحتى سلوكياً للولايات المتحدة، إلا أنها تعرف جيداً أنها تحتضن أعداداً غفيرة من ذوي الأصول الروسية والأوكرانية ممن يحملون جنسية مزدوجة، والقوى السياسية هناك حريصة على أصواتهم الانتخابية وعلى عدم وجود احتكاك بينهما باعتبارهما مكونين أساسيين من مكونات مجتمعها الهجين.

عند نشوب الحرب الروسية ـ الأوكرانية رسم “الإسرائيلي” دوره بدقة بالغة، ففي حين رأت أطراف في الحكومة “الإسرائيلية” ومنها وزيرا الخارجية والدفاع ضرورة الاصطفاف خلف واشنطن ودعم الحليف الأوكراني، رأى رئيس الحكومة أنّ هناك هامشاً للعب على حبال الأزمة بما يخدم الرؤية الأميركية ولا يفسد العلاقات القائمة مع موسكو، ويرى أنّ اصطفافه الكامل إلى جانب أوكرانيا سيؤثر سلباً ويشكل ضرراً لمكاسبه الثمينة .

كانت “إسرائيل” أكثر حذراً من أن تصطف في المعسكر الأميركي الداعم لأوكرانيا، وسريعاً ما توقفت عن إرسال معدات لها كالخوذات القتالية والأسلحة الخفيفة، وبالطبع لم تكن إلى جانب روسيا، فاختارت لنفسها دور الوسيط الذي رفضته روسيا في بداية الحرب، ولكنه عادة لا يلقى اعتراضاً رسمياً. هذه الطريقة التي أدارت بها الأزمة، وهذا هو دور الوسيط الذي يستفيد في كلّ الحالات، وهو يعطي “إسرائيل” هامشاً واسعاً لتحويل وساطتها إلى استثمار دبلوماسي واقتصادي مربح، ويريحها من مخاطر حسم موقفها لصالح فريق ضدّ آخر (بالطبع الطرف الأوكراني)، وهو الأمر الذي تحمّس له الرئيس الأوكراني (صاحب الجنسية الأوكرانية ـ الإسرائيلية المزدوجة)، إذ اقترح أن تستضيف القدس (أورشليم) حسب قوله محادثات سلام روسية ـ أوكرانية.

حكومة الائتلاف الحاكم في “إسرائيل” في وضع سيّئ داخلياً وقد تكون في طريقها للسقوط والذهاب في اتجاه انتخابات مبكرة، وهي قد لا تستطيع لعب دور الوسيط الذي تأمله بين موسكو وكييف، ولكنها برغم ضعفها قادرة على أن تطفو فوق مياه الحرب وقادرة على أن تلعب دوراً إقليمياً من الدرجة الأولى، فهي من يعطي الضوء الأخضر بالموافقة على نقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير من السيادة المصرية إلى السيادة السعودية، واستطاعت أن تحافظ على حميمية علاقاتها مع كييف وفي الوقت ذاته مع موسكو، وها هي تتجذر سياسياً وأمنياً واقتصادياً وإبراهيمياً في الخليج، وفوق ذلك كله وفي هذا الوقت الضائع فرضت سيطرتها على القدس وقسّمت المسجد الأقصى الذي أصبح مباحاً لدخول المستوطنين اليومي دون الالتفات للشعارات والتهديدات.

نحتاج إلى وقفة مع النفس وأخرى مع العقل وثالثة مع النقد الموضوعيّ ومراجعه كثير من السياسات…

*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى