مقالات وآراء

انهيار الاقتصاد اللبناني
بين الواقع وصعوبة المعالجة

} عمر عبد القادر غندور*

يمكننا القول الآن إنّ لبنان اليوم بات قاب قوسين أو أدنى من الدخول في الفوضى الاقتصادية، وربما هو دخل فعلاً، بعد أن بلغ الدين المالي نحو 88 مليار دولار، وهو ما أخرج اللبنانيين الى الشارع للمطالبة بخطط حكومية وتشريعات قانونية لا نعتقد أنها كافية لأنّ لبنان يدفع سنوياً ما قيمته ستة مليارات دولار خدمة للدين العام فقط. وقد دخل لبنان في مرحلة الانكماش بعدما فشل في إغلاق قنوات الهدر والنهب والتوظيف الانتخابي وبلغ عجز الميزان التجاري منذ بداية العام الحالي 23 بالمئة من الناتج المحلي، وهو عجز سينسحب سلباً على احتياط المصرف المركزي من العملات الأجنبية.

ولما كان لبنان يعتمد على مداخيله من العملات الأجنبية على الصادرات والسياحة وتحويلات المغتربين وهي مصادر انعدمت في ظلّ الانكماش قبل وباء كورونا، وفرضت المصارف قيوداً على تسليم الدولار للمستوردين مما دفعهم إلى شرائه من السوق السوداء او الصيرفة وهو ما انعكس سلباً على نسب الاستيراد وارتفاع الأسعار بنسبة أكثر من مئة بالمئة، في حين وضعت المصارف يدها على ودائع اللبنانيين، البالغة 65% من مجموع الودائع وهو ما أدّى الى تفاقم الأزمة الاجتماعية، وقدّر البنك الدولي عدد الفقراء اللبنانيين عام 2018 بحوالي الثلث، في حين انّ نسبتهم بلغت 27.4 % عام 2011 و 2012، وقد ارتفع العدد من بداية العام الحالي الى 50%، ولا نعتقد انّ الحكومة قادرة على فعل ما يؤدّي إلى تراجع هذه الأرقام في ضوء الحصار الذي تفرضه الولايات المتحدة على لبنان الذي يعاني من تراكمات لا حصر لها من الإخفاقات السياسية والاقتصادية، حتى انّ ديون الدولة اللبنانية تُعدّ بالفعل واحدة من أكبر الديون في العالم، وانّ القطاع المصرفي في لبنان بأكمله بحاجة ماسّة الى إعادة رسملة شاملة ما يعرّض ودائع اللبنانيين للخطر الشديد، في حين دأبت المصارف لسنوات طويلة على الاهتمام بأرباحها.

وليس جديداً انّ الاقتصاد اللبناني يقوم على الدولرة بنسبة تفوق 70% كما انّ الأغلبية العظمى من السلع المستهلكة في لبنان تأتي من الخارج، وقد أدّى هذا الخلل الى عجز قياسي في الحسابات الجارية، وعجزت القوى السياسية المتحكمة على مدى عقود من استغلال موارد الدولة عن مقاومة انهيار النظام الاقتصادي الذي نحن فيه، والذي سيؤدي بلبنان الى المجهول.

وفيما نحن على هذه الحال حلّ فيروس كورونا ضيفاً ثقيلاً يفرض قيوداً على الملايين من البشر، فكيف به في بلد يعاني أسوأ أزمة اقتصادية.

مرت على لبنان أزمات اقتصادية كثيرة، كان أبرزها الأزمة الاقتصادية الخانقة التي حدثت خلال الحرب العالمية الأولى، والتي كان من أسبابها الرئيسية الحصار الذي ضربته قوى الحلفاء وعلى مرافئ الدولة العثمانية، ومنها المرافئ اللبنانية. فتوقفت بذلك عملية الاستيراد والتصدير، فلم يعد بإمكان اللبنانيين الحصول على كثير من المواد الضرورية للحياة، وعلى المواد الأولية للزراعة والصناعة.

كان من نتيجة ذلك ان غزا الجوع جميع المدن والأرياف، ولم يشعر بالفاقة أولئك الذين كانوا يعيشون بالدين لنهاية الشهر فحسب بل عضّ الجوع بنابه جميع الطبقات، حتى الذين عاشوا في ترف قبل الحرب غدوا يعانون آلام الطوى، ويقتاتون بقشور الفواكه وأعشاب الأرض.

ونتيجة لهذا الحصار تعرّض اللبنانيون لأزمة اقتصادية شديدة، وخصوصاً بعد ان توقفت حركة الاستيراد والتصدير، وندرت المواد الضرورية على اختلاف أنواعها في الأسواق، وارتفعت أسعارها بشكل كبير. ولم تنحصر هذه الأزمة إلا بعد أن رُفع الحصار، وفُتحت المعابر البرية والبحرية، وتدفقت السلع الى الأسواق.

وفي العام 1975 ومما أذكره في هذا المجال انّ قيمة الدولار الأميركي الواحد عام 1974 لم تكن تتعدّى الليرتين و15 قرشاً، ولم تتراجع العملة الوطنية بشكل كبير وفاضح إلا في الثمانينات من القرن الماضي، عندما ارتفعت قيمته (ايّ الدولار) الى حدود الثلاثة آلاف ليرة لبنانية، وذلك بسبب الحرب الأهلية التي حدثت في لبنان ما بين عامي 1975 و 1990، والتي انقسمت فيها مؤسسات الدولة ودمّرت معظم المصانع والمعامل ونُهبت الأسواق التجارية وأُحرقت محلاتها في وسط مدينة بيروت.

والجديد آنذاك انّ المؤسسات العامة والادارات الرسمية أُعيد توحيدها في عهد الرئيس الياس الهراوي، كما أعيد بناء وتأهيل وسط بيروت، إلا أنّ النقد اللبناني خاصة والاقتصاد الوطني عامة لم يعودوا الى الحالة التي كانا عليها قبل الحرب، بل ظلا على حالهما من الضعف والتخلف طيلة العهود التي مرّت على لبنان بعد اتفاق الطائف، والتي أوصلت البلاد الى حالة من الافلاس المقيت، والى أزمة اقتصادية مريرة جعلت شبح الجوع يطرق أبواب بعض المنازل في لبنان، ويصيب أهلها. ومما لا شك فيه أنّ أسباب هذه الأزمة كثيرة، يمكن حصرها بما يلي:

1 ـ النظام الذي وضعه الفرنسيون للبنان، والذي يسود معظم دول العالم، وتتحكم فيه الشركات الرأسمالية الكبرى الواسعة الانتشار.

2 ـ الطائفية التي زرعها الفرنسيون أيضاً في النظام السياسي الذي أقاموه في بلادنا، ووضعوا دستوراً له عام 1926 هذه الطائفية التي تقوم على توزيع السلطات ومراكز الإدارة على الطوائف اللبنانية، وضعت أمام فئات الشعب اللبناني متاريس سياسية وعسكرية يُهدّد بعضها بعضاً. كما أقامت بعد اتفاق الطائف نظاماً من المحاصصة خطيراً اقتسم بموجبه زعماء الطوائف مغانم الدولة ومراكزها ووزعوها على أقاربهم وأتباعهم ومحازبيهم وليس على أصحاب الكفاءات من طوائفهم ثم أمعنوا في نهب أموال الدولة وفي إهمال مؤسسات الدولة الرقابية كمجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة والتفتيش المركزي وما شابه (هذا ما يقوله زميلنا في اللقاء المؤرّخ الدكتور علي معطي).

3 ـ سياسة الاقتراض التي سارت عليها الحكومات التي تعاقبت على الحكم في لبنان بعد اتفاق الطائف والتي أدّت إلى إفقار الأهالي وإلى رهن مقدّرات البلاد لسنوات طويلة للجهات الدائنة التي تفرض شروطها على المدينين باسم الإصلاحات (الكاذبة)، يُضاف الى ذلك انّ سياسة الاقتراض هذه ادّت الى القضاء على التنمية الاقتصادية بشكل خاص، وعلى تنمية جميع مرافق الدولة ومؤسساتها بشكل عام.

وقدّر بعض الاقتصاديين اللبنانيين هدر الأموال وسرقتها منذ عام 1982 حتى الآن بـ 350 مليار دولار، معتبرين انه يوجد تواطؤ داخلي وخارجي.

4 ـ اليوم إذا لم تبادر الدولة الى تطبيق القوانين تطبيقاً صحيحاً وسليماً، على أنفسهم أولاً وعلى أقربائهم وأزلامهم ومحازبيهم ثانياً وعلى الناس أجمعين دون استثناء… وتحويل الاقتصاد في البلاد من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج.

واليوم ماذا؟

ي ضوء كلّ ما تقدّم، ثمة من يقول: لماذا تريدون للدولار ان تتراجع قيمته؟

وكيف يتحقق ذلك في ظلّ انقسام عمودي بين اللبنانيين، وفي غياب رؤية اقتصادية وانسجام من بيدهم الحلّ والربط؟

يقول اقتصادي لبناني أقفل محلاته للصيرفة في بيروت وصيدا وصور وانتقل إلى قريته، يقول لماذا لا تسعّر الدولة الدولار بـ1000 ليرة ونستغني عن جميع السلع المستوردة؟ ونتوجه الى استبدال المستورد بالسلعة المحلية، ونعمل على صناعتها وان يكن بجودة أقلّ. وأثبت اللبنانيون براعتهم في كلّ الصناعات التي مارسوها وخاصة الصناعات الغذائية. وقد لا نستطيع صناعة سيارة او طائرة ولكننا نستطيع أن نتخلى عن العنطزة وشراء السلعة المحلية ونقبلها كما هي، وبذلك نستطيع ان نصل الى شبه استقرار بين ما نصدره وما نصنعه، وهذا ليس مستحيلاً إذا أردنا الولوج الى دولة وليس الى مزرعة.

*رئيس اللقاء الإسلامي الوحدوي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى