مقالات وآراء

أوروبا من دولة الإرهاب إلى الإرهاب الديبلوماسي

شوقي عواضة

لم يكن أمراً مفاجئاً إقدامُ الشرطة الفرنسية منذ أيام على حملة مداهمات في باريس واعتقال أربعة أطفال مسلمين بعد رفضهم الرسوم المسيئة للنبي محمد ضمن حملة تؤكد إصرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على اتباع وتنفيذ منهجية العداء للإسلام والمسلمين تحت ستار محاربة التطرف والانعزالية. ماكرون الذي يرفع شعارات الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان ليقدّم نفسه بصورةٍ حضاريةٍ توحي للعالم وكأنه منقذ الإنسانية بينما هو في الحقيقة لا يتميّز عن ماكسيمليان فرانسوا وماري إيزدور دي روبسبيير أحد أعضاء نادي اليعاقبة وأكثر الشخصيات تأثيراً في الثورة الفرنسية وأول من أسّس لديكتاتورية عام 1793 من خلال تشكيل جيش سانت كيلوت الذي قام بسحق كلّ (أعداء الثورة)، فكان بامتياز زعيم ما عُرف حينها بعهد الإرهاب الذي استمرّ لغاية 1794 حيث شهدت فرنسا أعمال عنف عقب اندلاع الثورة الفرنسية بين الجيروندين واليعاقبة حينها أشرف روبسبيير بنفسه على اعتقال وإعدام عددٍ كبير من الخصوم السياسيين من الجيرونديين اليمينيين، والهيبرتيين من اليساريين، والدانتونيين من الوسط. وقام بإعدامهم بالمقصلة وبقطع رؤوسهم حتى بلغ عدد الذين نفذ فيهم حكم الإعدام وفقاً للتقديرات نحو 17,000 شخص. تلك هي فرنسا التي مارست احتلالها لبلاد الشام ومارست شتى أنواع الإرهاب بحقّ شعوبنا وكانت شريكاً أساسياً في «سايكس ـ بيكو» التي قسّمت بلادنا إلى دول وأقاليمولا ننسى دورها في دعم الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وما قامت به أيضاً عام 1982 في بيروت إلى جانب قوات المارينز مع القوات المتعددة الجنسية. عدا عن الدعم الذي كانت تقدّمه لمختلف الجماعات الإرهابية وأولها منظمة (مجاهدي خلق) التي قامت بارتكاب عشرات الجرائم الإرهابية بحق المدنيين والتي أدّت إلى سقوط نحو 17000 مواطن إيراني. تلك هي باريس التي أقامت العديد من المؤتمرات لتنظيماتٍ أرهابية وتقديم الدعم المعلوماتي واللوجستي لها في عملها الإجرامي. وعلى رأسها داعش والنصرة، ها هي باريس تجترع اليوم كأس السمّ الذي أبدعت في صناعته لينقلب السحر على الساحر بخروج مارد الإرهاب الذي أطلقوه عن سيطرتهم مما أدّى إلى تزايد عمليات الإرهاب في أوروبا عموماً، وعلى اعتبار أنّ سلاح الإرهاب هو سيف ذو حدّين، ينقلب في لحظة تقتضيها مصلحته واستمرار وجوده على رعاته. وما حصل مؤخراً في فيينا ودول أوروبية أخرى يشكّل مصداقاً صارخاً على هذا الصعيد، مما أدّى إلى فقدان الخصوصية والمصداقية والاستقلالية على مستوى السلوك السياسي، والإنزياح أكثر فأكثر نحو التموضع الأميركي. مع ما يرتبه ذلك من تداعياتٍ على مستوى الدور السياسي للقارة العجوز في منطقة غرب آسيا. ويتضح ذلك جلياً من خلال تقديم الدعم السياسي والعسكري للفصائل الإرهابية في سورية والعراق وتسهيل انتقال الإرهابيين من أورويا إلى مناطق الصراع في الشرق الأوسط من أجل التخلص منهم، في مقابل العمل على تصنيف فصائل المقاومة في المنطقة (حزب اللهحماسالجهاد) وكلّ من يناصب العداء لـ «إسرائيل» كمنظماتٍ إرهابيةٍ، بالرغم من مشروعية مطالب هذه الفصائل التي تكفلها الشرائع الدولية والإنسانية. وفي المقابل لم تكتفِ أوروبا بدورها العملاني في تسهيل مهمات المنظمات الإرهابية بل أنها تعمل على استثمار الإرهاب وابتزاز الدول من خلال ممارسة الإرهاب الديبلوماسي وازدواجية المعايير في تعاطيها معه وعلى سبيل المثال بينما تقوم أوروبا بحماية منظمة (مجاهدي خلق الارهابية) وتقديم كافة الدعم لها تقوم في نفس الوقت بالضغط على بعض البعثات الديبلوماسية الرسمية في عواصمها متجاوزة كلّ المعايير والقوانين الدولية ودون أن تقيم أيّ اعتبار للحصانة الديبلوماسية التي كفلتها اتفاقية فيينا للعلاقات الديبلوماسية تحت مزاعم واهمةٍ وتهم ملفقةٍ، وما اعتقال المستشار الثالث لسفارة جمهورية إيران الإسلامية في النمسا السيد أسد الله أسدي إلا مثالٌ حي على الإرهاب المنظم لتلك الدول وبرهانٌ قاطع على ازدواجية المعايير في تعاطيها الذي تستخدم فيه الديبلوماسية عنواناً لإرهابهم والازدواجية المرفوضة شكلاً وتفصيلاً ومنهجاً لتعاملهم مع الإرهاب، اذ لا يمكن لأوروبا أن تلقي عبء مسؤولية إيوائها الإرهابيين على إيران صاحبة الدور المعروف والمشهود له في تخليص شعوب المنطقة من نير الجماعات الإرهابية والتكفيرية، وهي التي قدّمت الكثير من خيرة شبابها وأبنائها وأموالها وخبراتها في سبيل ذلك وإنّ قيام الأوروبيين بمحاكمة الديبلوماسي أسد الله أسدي ستشكل إشعاراً بمواصلتهم سياسة «ازدواجية التعاطي في ملف الإرهاب» وتكريساً لعدم التزامهم بالأعراف الديبلوماسية والدولية. وسيكون لذلك تداعياتٌ وأثمانٌ باهظة لا بدّ أن يدفعوها في المستقبل، كما يدفعون حالياً ثمن دعمهم لداعش الذي أنشأوه وموّلوه وأمّنوا له الغطاء السياسي والعسكري. بالتالي فإنّ الإصرار على محاكمة الدكتور أسدي سيؤسّس لإمارات إرهاب جديد يمارس أمراؤه إرهابهم الديبلوماسي الذي سيكون أشدّ خطورةً من إرهاب التنظيمات الإرهابية التي لن تختلف مقصلتهم عن مقصلات روبسبيير وابو بكر البغدادي، حينها لتفتخر أوروبا بمجدها الجديد باغتيال الإنسانية وباغتيال القوانين والمواثيق الدولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى