لماذا لا يُقيل الفاتيكان
 قادة المسيحيّين اللبنانيّين؟

 د. وفيق إبراهيم

هذه الدعوة لا تتناقض مع مفهوم سيادة الدول عندما يتعلق الأمر تحديداً ببلد تديره صراعات دولية وإقليمية بواسطة أدوات داخلية تظن ان السياسة هي غدر وانتقام ومصالح شخصية فقط وارتماء في أحضان الرعاة.

بالمنطلق، فإن لبنان ليس بلداً سيداً هذا ما يكشفه تاريخه السياسيّ منذ 1948 وتشير إليه مرحلة 1990 – 2020.

للتأكيد فإن ضابطاً فرنسياً صغيراً برتبة ملازم فقط كان بإمكانه تغيير أي قرار لبناني بومضة عين من مرحلة الاستقلال وحتى منتصف الخمسينيات.

أما بعد ثورة 1958 فأصبح الأميركيون في طليعة أصحاب القرار اللبناني وتلاهم المصريون في المرحلة الناصرية.

إلا أن اضطراب الأوضاع اللبنانية كناتج للصراعات الإقليمية والدولية في سورية وفلسطين والعراق وانعكاسها على الداخل اللبناني على شكل فوضى وحروب أهلية أدى الى دخول الدولة اللبنانية مرحلة مهادنات بين فئاتها الداخلية الى درجة كبيرة جداً من الطراوة والتجاهل التي لا تعكسها في العادة الدول في علاقاتها الداخلية.

لقد اتسمت مراحل التاريخ اللبناني منذ السبعينيات، خصوصاً بسيطرة أميركية فلسطينية عبر الحركة الوطنية، سورية وسعودية، حتى انسحبت منظمة التحرير فأصبحت السياسة اللبنانية تسويات بين الأميركيين والسوريين والسعوديين عاد اليها مجدداً الدور الفرنسي من خلال فشل هذه المنظومة الدولية – الإقليمية في ادارة لبنان وتراجع الدور الخليجي «حبياً».

إن ما يجري الآن في لبنان ليس مجرد ازمة اقتصادية قابلة للعبور ببعض القروض والإعانات الخارجية، بل قضية بنيوية تتعلق بالدولة والكيان، هل يصمدان ام يتجهان لانهيار كبير لأن الاسباب التي أدت الى هذه الازمة اللبنانية العميقة المطلوب منها اليوم إعادة إصلاح البلد، فكيف يمكن للجهة القائدة التي دمّرته أن تعاود بناءه؟

هذا ما يفعله الفرنسيون الذين يصرّون على حكومة جديدة تشترط على استقلالية وزرائها على أن يشكلها سعد الحريري.

والسعد هو رمز مرحلة 1990 التي أسقطت لبنان في أسوأ أزمة يعرفها بلد بحجمه، وهو وريث والده رفيق والحكومات المنتمية المتعاقبة والموالية لحريريّتهم والتي تتحمّل الوزر الأكبر من مأساة لبنان.

هناك إذاً إعادة إنتاج لطبقة سياسية مجرمة بإعادة تجميلها بمكياج فرنسي مخلوط بعطر ثمين فهل هذا يكفي لإنقاذ لبنان؟

بالتفصيل يتضح أن القوى الداخلية اللبنانية ملحقة على الشكل التالي: الخليج السعودي خصوصاً، الأميركيون، الفرنسيون وبعضهم على تحالفات مع سورية وإيران.

بالتركيز على المسيحية الداخلية، فإن للبطريركية المارونية كلمة مسموعة عندها بسبب التباينات الكبيرة بين فئاتها وتعدّدية أحزابها من «القوات» إلى التيار الوطني الحر والكتائب والأحرار والمردة والأرمن.

هؤلاء يهابون جميعاً من ازدياد عدد المسلمين الذين أدركوا معدل ثلثي اللبنانيين، فبدأوا بتسجيل ميل لمنع الاندماج السياسي بين المسلمين والمسيحيين فشكل قانون الانتخاب الأخير لصاحبه جبران باسيل نزوعاً شديداً لتكريس الانفصال الطوائفي واستقلاليته بقانون لا يستطيع فيه الناخب الا اختيار مرشح مذهبه.

فبدا قانون باسيل أكثر تراجعاً حتى من الدستور الطائفي، لأنه لا ينتج إلا نائباً مذهبياً مناطقياً من لون ناخبه ودينه نفسه، والطريف هنا ان الشيعية السياسية بدت مبتهجة من قانون باسيل الذي منحها 26 نائباً من أصل 27 وتمكنت أخيراً من جذب النائب الـ 27 بألعاب التحالفات.

ما يجري اليوم ونتيجة لتفوّق الدور الجهادي والسياسي لحزب الله، تحذر الأحزاب المسيحية الاساسية من مخاطر انتهاء الدور المسيحي في لبنان.

وتطالب بلامركزية إداريّة موسّعة تمنع هذه الغلبة الإسلامية المفترضة.

حتى أن الكنيسة المارونية تجاوزت مرحلة المطالبة بفدرالية لتصل الى حدود جهرها بكونفدرالية موسّعة وحياد إيجابي لا تفرق فيه بين العدو والصديق.

فهل تشكل هذه المطالبات مصلحة للمسيحيين أم للأحزاب المسيحية الحالية؟ حقاً فلو كانت هذه الأحزاب حامية للمصالح المسيحية لما وصل اللبنانيون الى هذه الحالة المربعة؟

فحال المسيحيين كحال المسلمين من التدهور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي من خلال تمثيل سياسي محميّ من الخارج ويمثل مصالحه على حساب مصالح اللبنانيين من كل الفئات.

إلا أن الإضافة التي ذهب إليها بعض القوى المسيحية، هو الفدرالية من جهة ومهادنة «اسرائيل» من ناحية ثانية.

علماً ان الفاتيكان يعرف أن «اسرائيل» تحتل اراضي لبنانية ومياهاً لبنانية، ولا تزال ترفض إعادتها وحتى مجرد الاعتراف بلبنانيتها.

وكيف يجري تمرير أسئلة طرحها إعلامي مع سياسيين موارنة يتساءلون فيها ماذا يفعل لبنان إذا ما طرد الخليج اللبنانيين العاملين لديه؟ او أراد إرسال بعضهم لإجراء مفاوضات اقتصادية في «اسرائيل».

عند هذا الحد فإن الفاتيكان المرجعية العميقة للمسيحية المشرقية تعرف أن مسيحيي لبنان هم المسيحيون الوحيدون الذين يؤدون دوراً سياسياً أساسياً في العالم العربي، فلماذا دفعهم نحو المخاطر عبر إعلام مشبوه وسياسيين فاشلين يريدون العودة إلى المناصب على ظهور الأميركيين والخليجيين وربما الإسرائيليين.

لذلك فان إصرار الفاتيكان على البطريركية المارونية أن تتجنب اي طرح يؤيد الفدرالية في لبنان، يجب أن يشمل صدور تعليمات فاتيكانية واضحة بأن سياسة لبنان تجاه الكيان الإسرائيلي هي محصلة إجماع لبناني حول هذا الموضوع واحترام لحقوق لبنان المسلوبة.

هذا هو الفاتيكان المستقل، السيد الذي يحترمه المسلمون ويقدرون دوره ويعتبرونه قادراً على إخراس أصوات تستغل المسيحيين لتأمين مصالحها الخاصة حصرياً.