مقالات وآراء

الصيغة اللبنانيّة بين صراع الداخل والتدخل الخارجيّ

} د. وفيق إبراهيم

الصراع بين الداخل اللبناني والخارج المتعلق به ليس جديداً، وقد يعود القسم الأكبر منه الى القرن التاسع عشر في مرحلة التجاذب الكبير الفرنسي – التركي – الانجليزي، فمن يصدّق أن الانجليز كانوا داعمين للقضية الدرزية في القرن 19 مقابل تأييد الفرنسيين شحن الموارنة المحليين بكل أنواع العصيان؟

نحن اذاً أمام ثلاث عصبيات أصبح بإمكانها الانخراط في لعبة القتال على الاستئثار بالنظام السياسي اللبناني، إما بصيغة منفردة او بطريقة مجتمعة تشبه الاتفاقات بين الصيغ الكبرى.

فما يجري اليوم لبنان مناقض لهذا السياق. فهناك قوة أميركية أساسية تؤيد الدور الفرنسي في لبنان ولا تنسى الإشادة بأدوار الكاثوليك والبروتستانت، لكنها في اطار تحالفاتها السعودية والخليجية، تضع العصبية السنية في إطار تحالفاتها الأولى من دون أن تحدث خرقاً نوعياً في الصفقة المارونية الاساسية والتاريخية للبنان.

يلي الأميركيون الفرنسيين وهم مؤيدون تاريخيون للموارنة في لبنان ولاعبون اساسيون فيه، لكنهم اصطدموا بصعود سوري وايراني في لبنان، أصابهم بشلل نسبي وجعل حركتهم قابلة للتسوية، وليست فريدة من نوعها.

واذا كان العثمانيون انقرضوا على مستوى الدور في لبنان مع انقراض إمبراطوريتهم ولم يتبق لهم الا محاولات خجولة احتفظوا بها مع استمرار التنظيمات المؤيدة لهم كالاخوان المسلمين، فإن السعوديين تسلموا دور البديل مستغلين إمكاناتهم النفطية الهائلة مؤدين دوراً كبيراً في لبنان أصاب السنة اللبنانيين تحديداً، لكنه شمل ايضاً معظم الطوائف، جاعلاً من الدور السعودي الأول من نوعه في لبنان عند كل الطوائف.

ولعبت مصر دوراً تاريخياً، لكنه تراجع مع تراجع الدور المصري العربيّ ولم يبق الا شعارات تتذكرها الناشئة من المرحلة الناصريّة الشابة.

روسيا بدورها تحاول اختراق الساحة اللبنانية لكن فاعليتها لا تزال محدودة لأن الغرب يمنع على اللبنانيين شراء أسلحة منها.

وينطبق الأمر على الصين الذي لا يسمح الغرب والشرق للبنان بشراء بضائعها الرخيصة لأن هذا الأمر يعد اختراقاً للصراع الاميركي – الصيني القائم على منع حركة السلعة الصينية في أسواق العالم.

هناك ادوار للعراق في لبنان تطفو تارة وتخبو في مراحل أخرى، كذلك ادوار سورية وايرانية اكتسبت ادواراً لها في اسواق لبنان بقوتها السياسية الآتية من اختراقها للساحات الحزبية في لبنان.

الملاحظ مثلاً أن الضاحية الجنوبية هي معقل اساس للسلع الإيرانية مقابل انتشار لافت للسلع السورية الإيرانية مقابل انتشار لافت للسلع السورية في منطقة البقاع، خصوصاً الشمالي منه.

ماذا يمكن أن نستنتج من هذه المعطيات.

من الممكن القول إن النفوذ الاقتصادي المنتشر في لبنان له بيئة سياسية هي أميركية وفرنسية وسعودية وإيرانية وسورية ولا يمكن بالتالي تحقيق أية تسوية على مستوى صيغة النظام الا بالاتفاق مع هذه القوى.

فإذا كان سمير جعجع يرى أن هناك اعتداءً سورياً على حدود لبنان البحرية بمعدل ألف كيلومتر مربع تقريباً فإن احداً لم يسمع صوته وهو يؤكد سيطرة «اسرائيل» على أكثر من ثلاث آلاف كيلومتر مربع بحريّ في النقاط الفاصلة مع فلسطين المحتلة في الجنوب، هذا بالإضافة الى ان سورية لم تنكر وجود تباينات في الحدود البحرية بين البلدين لكنها تؤكد بالمقابل أنها لم تبدأ بترسيم الحدود مع لبنان حتى يعترض جعجع وكل ما يشبهه. هذا بالإضافة الى ان الخلافات مع «اسرائيل» هي خلافات مع عدو تاريخيّ، فيما لا يشكل العداء مع سورية الا سوء تفاهم قابل للحل في كل وقت.

إن هذه المعطيات تؤكد أن إعادة بناء لبنان يجب ان تندمج معها بنيوياً وهذا يتطلب لبنان عربياً اولاً متحالفاً مع الدوائر المحيطة به كإيران وله علاقات مع فرنسا واميركا وكثير من الدول الاوروبية. وهذا يبيح له إيجاد تغطية هامة للتنقيب عن الغاز والنفط عند الحدود مع فلسطين المحتلة وسورية ايضاً، ما يؤمن له مردوداً لدعم صيغة سياسية تستطيع ان تجعل لبنان يقف على رجليه كدولة راشدة شبيهة بكثير من الدول العربية، وربما أفضل منها.

اليس هذا هو الحل للصيغة اللبنانية الجديدة التي يمكن لها بالحد الأدنى إضافة اسم لبنان على الدول القابلة للعيش اقتصادياً وسياسياً.

اما اذا عاد اللبنانيون الى سابق عهودهم في بناء صيغ سياسية ضعيفة، فإنهم لا يفعلون اكثر من اضافة اسم دولة هي لبنان تعيش على نفقة الآخرين وليس له أي مفعول سياسي فعلي.

لذلك فإن الصحافة اللبنانية أمام مرحلة صعبة تشبه الصيغة السياسية اللبنانية ويبدو ان المسألتين شديدتا التشابه الى درجة أن اختفاء الصحافة اللبنانية شبيه بتراجع الصيغة السياسية اللبنانية التي لم يعد لديها ما تستند إليه بعد التراجع الخليجي والغياب الغربي والعربي.

لبنان الى اين؟ من المستحيل العثور على صيغة سياسية ترضي كل الجحافل اللبنانية والغربية والعربية، لذلك فإن الوضع اللبناني ذاهب الى مزيد من الضعف والهزال بما يؤدي الى البحث عن ملامح لبنان آخر ليس موجوداً حتى الآن ويسرقه سعد الحريري والآخرون نحو ولاءاتهم وأحلامهم غير عابئين بالمصالح الفعلية اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى