أولى

أوكرانيا بين واشنطن وموسكو… الصدام العسكريّ المستحيل!

 د. عدنان منصور _

 كثيرة هي المشاكل والأحداث الساخنة في العالم، التي ترمي بثقلها على الساحة الدولية، تنتظر الحلول والتسويات بين الأطراف المعنية المباشرة، وغير المباشرة، أو بالوكالة عنها، حيث للدول الكبرى أياديها الطويلة في صنع أحداثها، وتحريكها وتوجيهها من خلف الستار وفق ما يخدم مصالحها الاستراتيجية، وذلك من خلال نفوذها، وأدواتها، وأتباعها، وعملائها في الداخل.

 كثيرة هي أيضاً السيناريوات، والتحليلات، والآراء الشخصية التي ترافق وتواكب الأزمات والصراعات، والمواجهات العسكرية، والاضطرابات، بحيث إنّ التحليل والرأي غالباً ما يعبّر ويخضع لخلفية عقائدية او سياسية مسبقة للكاتب، ولموقف شخصي يريد من خلاله رسم صورة للأحداث وتطوراتها، وفق ما ينسجم مع أفكاره وتطلعاته وقناعاته.

صحيح أنّ لكلّ واحد رأيه الحر، ومواقفه المبدئية، إلا أنّ هذا لا يعني أن يكيّف سير الأحداث وفق ما يتمناه ويبتغيه. فالموضوعية لا بدّ منها، حفاظاً على الصدقية، وسلامة التفكير، والأمانة في نقل صورة الواقع على ما هي عليه بكلّ دقة، دون شطط أو حماس أو مبالغة، لا سيما عندما نتناول حدثاً عالمياً ما، في أوكرانيا مثلاً، او في أميركا اللاتينية، او في غربي آسيا، ووسطها، وجنوب شرقها.

 في أوكرانيا، من هو مع او ضدّ السياسة الروسية، أو الأميركية والغربية، فيصوّر المشهد ويحلله حسب ميوله وقناعته، وسياسته. لحين انّ البعض المؤيد لروسيا يعتقد بكلّ بساطة، انّ الردّ الروسي في أوكرانيا سيكون بنقل المعركة الى الحديقة الخلفية للولايات المتحدة في أميركا اللاتينيّة لتصيبها في عقر دارها. والبعض الآخر يتصوّر انّ واشنطن وحلفاءها، ستواجه الروس في أوكرانيا بكلّ قوة، وستحسم المعركة لصالحها .

 صحيح انّ الحسم العسكري حصل في أماكن ساخنة في العالم خلال العقود والقرون الماضية بين الدول، إلا أنّ هذا الحسم كان ينفذ بالأسلحة التقليدية، وكان يتمّ بين الأقوى والأضعف عسكرياً كماً ونوعاً. والمنتصر في الحرب، كان يفرض شروطه على المنهزم التي يتقبّلها رغماً عنه، دون ايّ اعتراض. ولنا في ذلك نموذج من هزيمة اليابان والمانيا والسلطنة العثمانية وغيرها، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى والثانية، وحديثاً يوغوسلافيا والعراق، عدا الانقلابات العسكرية التي كانت وراءها الدول الكبرى، ودبّرتها وأطاحت بأنظمتها الوطنية دون حرب مباشرة.

 لكن اليوم الأمور تختلف عن سابقاتها، خاصة عندما تتواجد على الساحة الساخنة أكثر من دولة تمتلك أسلحة الدمار الشامل. فليس من السهل ان تدخل هذه الدول في مواجهة عسكرية مباشرة في ما بينها. إذ أنّ كلّ دولة من هذه الدول، وعند ايّ حرب أو مواجهة عسكرية مباشرة بينها، لن تقبل بالهزيمة مهما كان حجمها ولو بحدّها الأدنى، وأياً كانت التبعات، وكان نوعها. فلا واشنطن تقبّل بالهزيمة ولا موسكو ترضى بها. فالفعل من طرف سيكون له رد فعل أقوى من الطرف الآخر، وهذا ما يشرع الأبواب أمام استخدام أسلحة غير تقليدية، تؤدّي الى الدمار المشترك الذي لن يوفر طرفاً من الأطراف. هذه حقيقة تدركها الولايات المتحدة وروسيا معاً. وما أزمة الصواريخ الكوببة عام 1962، في زمن الرئيسين السوفياتي نيكيتا خروتشوف والأميركي جون كندي، واندفاع موسكو في نشر الصواريخ في الجزيرة، وتهديدها المجال الحيوي للأمن القومي الأميركي، إلا نموذج من حالة ساخنة وضعت العالم على شفير الحرب، قبل ان يتراجع الاتحاد السوفياتي، ويسحب صواريخه النووية من كوبا. وكان ذلك مقابل سحب واشنطن صواريخها النووية من تركيا وإيطاليا، وعدم غزوها لكوبا.

 رغم كلّ ما يجري اليوم في أوكرانيا فلن يكون هناك من مواجهة عسكرية مباشرة بين روسيا والولايات المتحدة وحلفها الأطلسي

 أوكرانيا بالنسبة لروسيا، كما كوبا بالنسبة للولايات المتحدة، لجهة مجالها الحيوي وأمنها القومي.. فالصدام إذا ما حصل سيقتصر مفعوله على موسكو وكييف، أيّ بين الأقوى والأضعف، ولن يتمدّد، وإنْ لقي الضعيف المساندة المباشرة التي لن تحسم الحرب لصالحه، بذلك سيبقى الصراع محصوراً على الأرض جغرافياً وعسكرياً.

 إذا كان طريق الدبلوماسية، هو الطريق الأسلم الذي يتطلع اليه العالم، ليجنّب الأطراف المتصارعة الويلات والحروب، فإنّ واشنطن لم تتوقف عن استهداف روسيا، وأمنها القومي، والاندفاع باتجاه خاصرتها ومجالها الحيوي، أكان ذلك في جورجيا، أو أوكرانيا، أو بلاروسيا .

 تقدّم الولايات المتحدة او زحفها الناعم باتجاه روسيا بعد انهيار المعسكر الشيوعي، وتفكك الاتحاد السوفياتي لم يتوقف. إذ أنه أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي بعد الحرب العالمية الثانية، أنشأت الولايات المتحدة حلف شمال الاطلسي في 4 نيسان عام 1949، بذريعة التصدي للخطر الذي يمثله المعسكر الشيوعي. لكن رغم سقوط هذا المعسكر، وتفكك الاتحاد السوفياتي، وسقوط حلف وارسو الذي انشأته موسكو عام 1955 رداً على الحلف الاطلسي، فإنّ واشنطن لم تتراجع أو تتخلّ يوماً عن استفزاز موسكو، وعن فكرة التمدّد في أوروبا الشرقية، وتوسيع نطاق حلفها العسكري على أرضها، وما هو أبعد من أوروبا الشرقية، بغية تطويق روسيا وتحجيمها، وتقليص حركتها ودورها على الساحة العالمية.

 كان الحلف الأطلسي يضمّ في صفوفه آنذاك 12 دولة حتى تاريخ تفكك المعسكر الشيوعي. وعلى الرغم من تفككه، سارت واشنطن باندفاع كبير لملء الفراغ، وتوسيع الحلف ليضم اليوم 30 دولة، 28 دولة أوروبية، ودولتين في أميركا (الولايات المتحدة وكندا).

 سقوط الشيوعية في أوروبا وتحلل الاتحاد السوفياتي، فتح شهية التوسع لواشنطن، إذ أنّ عالم ما بعد 1990، حرر قيود الولايات المتحدة، وجعلها لأول مرة طليقة، غير مقيّدة بضغوط او مواجهة او حرب باردة.

 واقع الحال الجديد هذا، دفع بمستشار الرئيس الأميركي جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي زبيغنيو برزينسكي Zbigniew Brzezinski  ليقول: «إنّ أفول نجم الاتحاد السوفياتي معناه تفرّد الولايات المتحدة بمركز الدولة العظمى ذات المسؤولية العالمية. إنّ أوروبا ستكون في أحسن الأحوال قوة اقتصادية… ولن تتحوّل اليابان الى قوة عسكرية وسياسية إلا بعد مضيّ بعض الوقت. وهكذا تبقى الولايات المتحدة القوة العالمية الوحيدة.»

 أما الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون فقد ذهب الى أبعد من ذلك في كتابه: «انتهزوا الفرصة» (Seize the moment)  ليقول: «إن زعامة أميركا للعالم، لن يكون هناك عنها بديل طيلة العقود المقبلة. فالولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الوحيدة التي تمتلك من القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ما يجعلها تقف في ذروة قوتها الجيوبوليتيكية. وإذا ما انحدر وضعها ومكانتها كقوة عظمى وحيدة، فإنّ هذا سينتج عن الاختيار وليس بالضرورة». ورأى نيكسون أنه بعد انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي، لم يبقَ على الساحة الدولية سوى دولة عظمى واحدة… وأصبحت الحاجة تلحّ على ضرورة إيجاد قاعدة جديدة تنظم العلاقات الدولية للوضع الجديد. أيّ بمفهوم نيكسون، فإن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة المؤهلة لقيادة العالم!

 مما لا شك فيه أنّ العالم مع بداية التسعينيات، يختلف عما هو عليه اليوم، بعد المتغيّرات الدولية واستعادة روسيا لهيبتها وقوتها ودورها. لذلك من الطبيعي ان يلقى تمدّد الحلف الأطلسي إلى أوكرانيا، غضب موسكو وردود فعل عنيفة وقوية من قبلها، حيث لا يمكن لها التفريط بأمنها القومي، او السكوت عن هذا التمدّد، او الاستسلام له، مهما كلف ذلك من ثمن.

 واشنطن وحلفاؤها في أوروبا تدرك في العمق جيداً هذه الحقيقة والردّ الطبيعي لموسكو في هذا الشأن. هذا الواقع، يجعل الدبلوماسية بين الأطراف المتصارعة، المخرج اللائق لها، والذي لا غنى عنه، والحلّ الأنسب والأنجع للأزمة في اوكرانيا، بما يضمن الأمن القومي لروسيا، وتخلي واشنطن عن فكرة التوسع شرقاً وضمّ أوكرانيا الى حلفها الأطلسي .

 يبقى أمام واشنطن سلاح من نوع آخر، إذا ما أرادت الذهاب بعيداً في ما بعد، وهو المواجهة الاقتصادية والمالية، وفرض العقوبات الأميركية الأحادية الجانب على روسيا، لتشمل شركات، ومؤسسات وهيئات وشخصيات فاعلة. هذه العقوبات أصبحت تطبع سلوك الولايات المتحدة حيال الدول التي ترى فيها واشنطن خصماً سياسياً، ومنافساً اقتصادياً وعسكرياً. تفعل فعلها، حيث تترك أثرها السلبي على العديد من الشعوب المقهورة، من خلال الحصار والعقوبات والتجويع، وتركها تتخبّط في مشاكلها، بغية فرض الإملاءات عليها في ما بعد، وحملها على الإذعان لإرادتها، وتنفيذ مطالبها.

 ألم تكن غايات وأهداف الدول التي كانت تشعل الحروب تخفي وراءها مصالح اقتصادية، حيث يفرض المنتصر بعد كلّ حرب، الشروط والأمر الواقع على المنهزم؟! وما دامت الحرب الاقتصادية الناعمة التي تلجأ اليها واشنطن، تفعل فعلها على الأرض، وتحقق هدفاً مهماً من أهدافها ضدّ الدولة الأضعف، فلا داعي بعد ذلك لصدام عسكري مباشر، خاصة إذا كان بين قطبين يملكان من أسلحة الدمار الشامل ما يحقق التوازن بينهما، ويجبرهما على البحث عن الحلول الدبلوماسية البديلة، بدلاً من اللجوء الى القوة والتهديد والتهديد المضاد .

 إنها ساحة الكبار، يعرفون في نهاية المطاف متى يتقدمون ويتراجعون، ومتى يحجمون ويناورون، ومدى المساحة التي يتحركون فيها على ملعب السياسة الدولية، ليبقى الخيط الرفيع يفصل بينهما، حيث تظلّ أوكرانيا ساحة توتر، يتجاذبها طرفان محكومان بتجنّب الحرب، وحلّ الأزمات الساخنة وفقاً لمبدأ لا غالب ولا مغلوب !

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى