أولى

المشروعيّة والوظيفة والعقد الاجتماعيّ

 سعادة مصطفى أرشيد _

بعد نصف قرن من انطلاق المشروع الصهيوني عام 1897 وبعد عقد ونصف العقد من نجاحه عام 1967 في إقامة دولته على جزء من فلسطين الانتدابية، وصل المشروع العروبي إلى طريق وعر، بتورّط زعامته في صراعات بينية جانبية، على حساب مشروع تحرير فلسطين. وهذا المشروع هو الذي سبق له أن رفع في انقلاباته العسكرية وبياناته الحزبية وبرامجه الحكومية هدف تحرير فلسطين باعتبارها مهمة عربية .

لكن البيانات والبرامج والوعود بتحرير فلسطين لم تعد على انسجام مع واقع تورّط النظام العربي في الصراعات الجانبية أو مشاريع الوحدة الارتجاليّة أو خوض الحروب وإرسال الجيوش بعيداً جداً عن خط التماس مع العدو المحتلّ لأرض فلسطين، فكان القرار بالتخفف من أحمال المسألة الفلسطينية التي أصبحت حملاً ثقيلاً تنوء به أكتاف من يدّعون حمله، فعملوا على أن تنتقل مهمة التحرير من المحيط العربيّ إلى الفلسطيني، الأمر الذي قاد قمة عربية عام 1964 لإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية بميثاقها القومي (مرحلياً) ووظيفتها المعلنة بتحرير الأرض التي احتلت عام 1948 بالكفاح المسلح، وعدم التدخل في الأراضي التي ضمّت إلى الأردن إثر مؤتمر أريحا أو تلك الواقعة تحت السيادة المصرية، ولكن وظيفتها غير المعلنة ووظيفة رئيسها الخطيب المفوّه، كان العمل في خدمة صانعيه بتخفيف الحمل عنهم وفي الوقوف باسم فلسطين ومسألتها دفاعاً عنهم في صراعاتهم العربية ـ العربية .

مثلت هزيمة حرب حزيران 1967 علامة فارقة في الوعي السياسي الجمعي، ففي وقت كان المواطن ينتظر بفارغ الصبر اندلاع الحرب لتنطلق صواريخ القاهر والظافر مؤذنة بعودة اللاجئ إلى بيته وأرضه، ويتمّ تحرير فلسطين ورمي الأعداء طعاماً لسمك البحر الجائع، كما كان يردّد الإعلام الحماسي، وإذا بالنتيجة هزيمة مروعة في حرب بالغة السرعة احتلت بها (إسرائيل) أضعاف حجمها وهزمت جيوشاً تفوقها بعددها وعدّتها، مما جعل الهزيمة لا تقتصر على الجوانب العسكرية والسياسية وخسران الأرض، وإنما لتطال من الروحية في عمقها .

مع أنّ ردّ الفعل كان عند الغالبية يتمثل بالخيبة والإحباط، إلا أنّ قلة رأت غير ذلك ونهضت من بين رماد الهزيمة متخذة قرارها بأن لا تهزم، وأن تقاوم بما تملك من إمكانات متواضعة، وما لبثت الأنظمة المهزومة أن تبنّت هذه الظاهرة، بهدف الدفاع عن نفسها المهزومة ولاسترداد شيء من مكانتها، فدعمت العمل الفدائي الذي بلغ بريقه حداً غير مسبوق اثر معركة الكرامة في آذار 1968، تلك المعركة التي كان للجيش الأردني دورٌ كبير فيها ـ بغضّ النظر أنّ ذلك كان بمبادرة الضابط مشهور حديثة لا قيادة الجيش، مع أنّ معركة الكرامة لم تكن إلا نصراً في معركة محدودة، فلم تحرّر الأرض أو تجبر العدو بالتسليم برؤانا، إلا أنها أثبتت أنّ هذا العدو من الممكن هزيمته، وانتشلت الشرف من أوحال الهزيمة.

هكذا… وإثر هذا النصر، ومن خلال فوهة البندقية ورصاصها العابر لنهر الأردن، استحق حاملها ـ الثائر الشرعية، ووجد النظام العربي المهزوم في تبني الظاهرة الفدائية ما يعوّضه عن ممارستها بنفسه، وما يعطيه الفرصة لاسترداد ما أصاب هيبته من جراح، فدعمت مصر العمل الفدائي وأوصلت قيادته إلى موقع زعامة منظمة التحرير، وفتحت أبواب معسكراتها للتدريب ومخازن سلاحها لتزويده، وأطلقت إعلامها لتمجيده، كما رعت علاقاته بدول الكتلة الشرقية. هذا فيما دعمت السعودية ودول البترودولار الظاهرة الفدائيّة بما تملك من مال وفير، وبما يقرب الظاهرة الفدائية ومنظمة التحرير لتصبح أكثر تماهياً مع النظام العربيّ، هذا ما حصل تدرجاً عند عقد المجلس الوطني الفلسطيني بدورته الثانية عشرة عام 1974، وإقراره البرنامج المرحلي (النقاط العشر) والذي حوّل مهمة منظمة التحرير من تحرير فلسطين التي احتلت عام 1948 إلى العمل على إقامة سلطة فلسطينية في الأراضي التي احتلت عام 1967، الضفة الغربية التي كانت جزءاً من الأردن وغزة التي كانت تحت السيادة المصرية. ثم تدرّجاً مرة أخرى إلى قمة الرباط 1974 عندما قاتلت زعامة النظام العربي وخاصة الثالوث المكوّن من الملك فيصل بن عبد العزيز وأنور السادات والملك الحسن الثاني على اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وانّ قرارها الوطني مستقلّ (عن القرار العربي)، وتدرّجاً للمرة الثالثة قادت وحدانية التمثيل واستقلالية القرار إلى اتفاق أوسلو عام 1993، إلى حكم ذاتي بالغ المحدودية، وكيان يعتمد على المساعدات الخارجية المشروطة، وما نحن فيه من نصب وكرب، وكان المفتاح في اتفاق أوسلو والضروري لفهم وظيفته، انّ منظمة التحرير الفلسطينية اعترفت بـ (إسرائيل) وحقها ـ وفي السياق روايتها التاريخية والحقوقية ـ مقابل اعتراف (إسرائيل) بمنظمة التحرير وقيادتها كناطق (ممثل) للشعب الفلسطيني .

الداعي لتذكار ما تقدم هو اجتماع المركزي في السادس من هذا الشهر في رام الله، فبعد هذه التدريجات لم يعد هناك ما هو مستغرب، فلم يكن اثنان يختلفان حول المطلوب من المجلس المركزي في دورته الأخيرة، الجميع يعرف مخرجاتها الرئيسية المعدة مسبقاً قبل انعقادها، ووظيفة هذه المخرجات وبقيت للجلسة وللإعلام تفاصيل الأدوار الثانوية وجوائز الترضية، وبهذا المجلس العتيد نستطيع القول بأنّ الفصل النهائي من رواية منظمة التحرير قد بدأت صياغته .

كان الفلسطيني في فلسطين وخارجها قد أبرم عقداً اجتماعياً مع منظمة التحرير وقيادتها، بأن يمنحها تأييده ودعمه واستعداده لبذل دمه وروحه كما قدّم الشهداء وحريته كما أعطى الأسرى، وجزءاً من ماله وعرق جبينه كما فعل المغتربون بالخليج، وذلك مقابل أن تعيده إلى وطنه وبيته وأن تدافع عن مصالحه العليا ولا تفرّط بها. والعقد الاجتماعي مثله مثل أيّ عقد يبقى سارياً ما دامت أطرافه ملتزمة بشروطه، فهل لا يزال هذا العقد سارياً؟ أم أن الشرعية تؤخذ مرة واحدة وتصبح حقاً حصرياً أو (شيكاً على بياض)، فهناك من يريد منظمة التحرير باعتبارها وثناً أو عجلاً مقدساً.

*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى