أولى

سياسة التلفيق والكذب لن تصنع النصر لأميركا في أوكرانيا

‭}‬ العميد د. أمين محمد حطيط*
أدركت روسيا وبعد ثماني سنوات من المعاناة من سياسة الحكومة الانقلابية في كييف أنها ولأسباب دفاعية محضة ومن أجل صيانة الوجود الروسي والأمن الإقليمي، أنها مضطرة لشن عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا تتخذ من أسلوب الحرب الوقائية ومسار الضغط الميداني نهجاً لها، لحماية الذات والأمن القومي في ظلّ اعتداءات استرسلت حكومة كييف في ممارستها ضدّ المواطنين في الدونباس من ذوي القومية الروسية، كما وتقديم أراضيها الى أميركا لتكون مسرحاً لمختبرات بيولوجية وجرثومية تستعمل ضدّ روسيا والصين الى ان كان التخطيط الأخير او التهيّؤ لضمّ أوكرانيا الى الحلف الأطلسي مع ما يستتبع من نشر قوات أطلسية على الحدود الغربية لروسيا وهو أمر لو حصل لكان شكل أكبر تهديد أمني ووجودي للاتحاد الروسي القائم.
لقد اضطرت روسيا الى تنفيذ عمليتها العسكرية الخاصة تلك، من أجل دفع تلك التهديدات، نعم كان فعلها في الميدان فعل مضطر لا تتعدّد الخيارات أمامه بعد ان أقفلت أميركا الباب بوجهها ولم تستجب لأيّ من محاولاتها لتسوية الوضع سلمياً عبر التفاوض، لا بل راحت أميركا ومنذ المحاولات الروسية الأولى للتسوية تصعّد في مواقفها وتمارس الاستفزاز لاستدراج روسيا الى الميدان لتغرق في حرب استنزاف تنهكها وتقود الى شطبها من الخريطة الاستراتيجية الدولية وتمنعها من ممارسة دورها كقوة عالمية من الصف الأول.
بيد انّ روسيا ورغم علمها بما تنصبه لها أميركا من فخاخ في أوكرانيا فقد لجأت الى القوة العسكرية الخاضعة لضوابط صارمة تحدّدها في المكان والطبيعة والوسائل والسلاح والذخيرة حتى وفي التسمية، وهي لم تشأ ان تخوض حرباً مع أوكرانيا بما تعنيه كلمة حرب من معانٍ او تقتضيه من مستلزمات وأبقت عملها في حدود العملية الخاصة ذات الأهداف المحددة التي إذا تحققت بأيّ وسيلة بما في ذلك التفاوض، فإنها تسارع الى وقفها.
لكن أميركا التي «اغتبطت» بالقرار الروسي بالذهاب الى الميدان، قرّرت ان تخوض ضدّها حرباً بالسلاح الأطلسي والإنسان الأوكراني المعزز بالمرتزقة المتعدّدي الجنسيات، دون ان تكترث بما سينجم عن هذه الحرب من قتل ودمار وإنهاك وتشتت حتى ومراجعة الخرائط والخطوط الحدودية. فالمهمّ لديها أمران الأول استمرار الحرب ومنع روسيا من حسمها، الثاني استمرار القيادة في كييف في مواقعها تقود المواجهة العسكرية ولا تستجيب لأيّ حلّ سياسي او عملية تفاوض.
ولتحقيق أهدافها عملت أميركا باستراتيجيات المواجهة والتصعيد المتعدّد الأشكال، فإلى الحرب العسكرية عبر حكومة كييف شنّت على روسيا الحروب الاقتصادية والسياسية والإعلامية والنفسية، لكن روسيا ورغم بعض الثغرات في أدائها العسكري في بعض الأحيان أتقنت اختيار الاستراتيجيات وأساليب المواجهة واعتمدت في مواجهة التصعيد سياسة التدرّج التصاعدي في الأهداف، تدرّج استلزم أثماناً تدفع في بعض الأحيان، لكنه مكّن روسيا من الحؤول دون نجاح أميركا في خططها وفتح الأبواب أمام مفاجآت لم تكن في الحسبان، ما جعل أميركا ترتدّ الى مناوراتها الاحتيالية المعهودة من أجل التهويل، واستعادت سلوكيات احترفتها سابقاً خاصة في سورية. وعملاً بهذا السلوك قامت أميركا بتطبيق نظرية كشفتها الفلسفة اليونانية تقول «القوي يبطش والضعيف يختال» وهي لتغطية ضعفها وعجزها أمام روسيا لجأت ومعها أوروبا الى الكذب والاحتيال وإضافة الى ما تقدّم قامت مؤخراً بـ:
1 ـ ّالتهويل بتحضير روسيا لاستعمال السلاح النووي والتهديد الصريح والمبطن لها في حال استعمالها له، وهي تعلم انّ العقيدة العسكرية الروسية تضع ضوابط صارمة في هذا الأمر ما يمنع استعمال السلاح النووي إلا إذا تعرّضت الدولة لهجوم نووي او انهارت جبهاتها الدفاعية ولم يعد هناك وسيلة لوقف الانهيار الا الردع النووي، وأخيراً تهديد الكيان ووحدة الأرض الروسية والأمن القومي الروسي في العمق بشكل جدي لا يمكن دفعه إلا بالردع النووي، وايّ من هذه الحالات غير متحققة اليوم كما أنها مستبعدة التحقق في الظروف وموازين القوى الراهنة، ثم لا يمكن تحققها في الواقع الا في حال دخول أميركا او الحلف الأطلسي طرفاً مباشراً في القتال في الميدان، ما يعني انّ أميركا توحي بترويجها هذا الى احتمال انزلاقها الى المواجهة التي يمكن أن تتطوّر الى نووية. وتريد أن تحمّل روسيا مسؤولية فعل تكون هي قد اقترفته او تسبّبت به.
2 ـ الصخب والضجيج حول ما يُقال من تزويد إيران لروسيا بمُسيّرات شاهد ـ المُسيّرة بدون طيار ـ التي تزعم أميركا انها حققت اختراقات هائلة في الميدان الأوكراني لصالح الجيش الروسي، وتقود أميركا حفلة الصخب والضغوط والتهويل ضد روسيا وإيران التي نفت قيامها بهذا الأمر وأكدت أنها لم تزوّد حليفتها روسيا حتى الآن بأيّ من هذه المُسيّرات، مع انّ من حقها ووفقاً لقرارها السيادي ان تفعل إذا شاءت بناء لطلب روسيا اذا حصل. ومع هذا فإنّ الغريب بالأمر انّ أميركا ومعها الغرب الأطلسي يجاهرون بما يقدّمونه لحكومة كييف من أسلحة وذخائر ويستنكرون قيام إيران بتقديم سلاح او تجهيزات عسكرية لحليفتها الاستراتيجية.
3 ـ التهيّؤ لاستعمال كييف للقنبلة النتنة ليعقبها الادّعاء بأنّ روسيا هي من استعملتها من أجل فرض عزلة دولية عليها فشلت حتى الآن في تحقيقها، وبالمناسبة نذكر بانّ هذه القنبلة محرمة دولياً لما تسبّبه بموادها المشعّة من تلوّث البيئة ما يؤدّي الى تعريض الإنسان وعلى مساحات شاسعة ولوقت طويل لأخطار وأمراض وتشوّهات ولا يسلم النبات من أخطارها، أما أميركا التي اعتادت على ارتكاب جرائم الحرب واستعمال الأسلحة النووية والجرثومية والكيماوية تريد الآن ان تمكّن حكومة كييف من استعمال هذه القنبلة كما مكّنت الجماعات الإرهابية في سورية من استعمال الأسلحة الكيماوية ثم تتهم روسيا باستعمالها كما ادّعت بأنّ الحكومة السورية هي من استعمل الكيماوي، في سلوك فيه المكيدة التي تحاول ان تخفي عجزاً وإحباطاً في المواجهة الأساسية.
لقد لجأ الغرب بقيادة أميركية الى التلفيق والكذب بعد ان أدرك بأنّ خططه ومكائده ضدّ روسيا فشلت ومع ذلك فإنه يرفض الاعتراف بالفشل او يمتنع عن الإقرار به او يمنع من التراجع ويصرّ على المكابرة رغم انّ فرص او احتمال خسارة روسيا للمواجهة في أوكرانيا منخفضة حتى تكاد تكون معدومة لأنّ الأمر بالنسبة لها حياة او موت ولديها من القدرات ما يكفي لتحقيق الانتصار بخلاف الغرب الذي بدأ يتلقى تداعيات ما يجري في أوكرانيا وبات يعاني مما ينزل به من خسائر جسيمة وويلات جراء ذلك، وبدأ المواطن الأوروبي يشعر بثقل أو بضخامة الثمن الذي يدفعه مقابل قرارات اتخذتها أميركا وسارت بها أوروبا خدمة للمصالح الأميركية، لكن هذا الحال لا يمكن أن يستمرّ فمن جهة فإنّ سياسة النفاق والتهويل لن تثمر ولن تقود روسيا الى الخسارة، ومن جهة ثانية فإنّ تحمّل الأوروبي لأعباء الحرب لا يمكن ان يدوم ويستمرّ ما يعني انّ خسارة أميركا والغرب للحرب في أوكرانيا هي مسألة وقت، وستكون واقعة مدوية تنتج تغيّراً في النظام الدولي وشبكة العلاقات الدولية التي نسجت أو قامت لصالح الغرب منذ قرن من الزمن، أيّ بعد الحرب العالمية الاولى، ونشهد الآن تصدّعها الذي يبشر بسقوطها المترافق مع صعود قوى دولية لن تقبل باستمرار أميركا في قيادة العالم.
*أستاذ جامعي – باحث استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى