نقاط على الحروف

سقوط الفلسفة الأميركية لمفهوم القوة المركزية في العالم

ناصر قنديل

– عندما تكون الحرب في أوكرانيا فإن روسيا جديدة تكون قيد الولادة، وأوروبا جديدة تكون قيد الولادة أيضاً، وفي كل مرة تتشكل فيها روسيا وأوروبا من جديد وفق موازين قوى جديدة يكون ثمة تغيير عالمي كبير، لم يعرف مثله إلا بعد غزو نابليون لروسيا في مطلع القرن التاسع عشر، ثم حرب القرم في نهاية القرن نفسه، ومن بعدهما في الحربين العالميتين الأولى والثانية في مطلع ومنتصف القرن العشرين، وصولاً لنهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي وتشكل نظام الأحادية القطبية الأميركية في نهاية القرن نفسه. وإذا كان سياق حروب القرنين الماضيين هو أخذ العالم تحت وطأة وتأثير عوامل وحاجات توسع السوق من جهة، والسعي لتلبية متطلباتها وفق مفهوم الدولة المبنية على القوة العسكرية ذات الصفة العالمية من جهة مقابلة، فإنه يستحيل الحديث عن وقف نتائج وتداعيات تفكك هذا السياق عند حدود نهاية القطبية الأحادية، خصوصا عندما يكون أساس التغيير المرافق للجولة الجديدة مرتبطا بتغيير نوعي في مفهوم حاجات السوق من جهة، وحدود قدرة القوة العسكرية ذات الصفة العالمية من جهة موازية.
– من مراقبة العناصر التي لحقها التغيير ورافقت ما قبل مسار الحرب في أوكرانيا، وخلاله ولا تزال ترافقه، نضع يدنا على مسار أشد عمقا للتغيير من ذلك المرتبط مباشرة بالحرب، أو الذي ألقت الحرب عليه مزيداً من الأضواء، مثل ظهور روسيا قوة لا يمكن الاستغناء عنها اقتصادياً في الاقتصاد العالمي، وسقوط نظرية القوة السحرية للعقوبات والعزل عن النظام المصرفي الغربي، وظهور هشاشة القدرة الأوروبية على الاستقلال الاقتصادي عن روسيا، بينما كان العكس هو السائد في التوقعات النظرية، فقد ظهر ما هو أعمق، خصوصاً أن التآكل الذي أصاب مفهوم السوق بنسخته المعولمة أعمق بكثير من قضية موارد الطاقة وأزماتها، بعدما قالت الأزمات المتلاحقة في أسواق المال والبورصات والمصارف ومنها أزمة 2008 التي هزت أميركا ومعها العالم، أن الاقتصاد الافتراضي الذي يشكل أبرز نتاجات العولمة، يشكل قوة طرد عكسية للثروات الحقيقية والإنتاج الحقيقي نحو بلدان اقتصادات الأصول الثابتة، طلباً للقرب من الأسواق ومن اليد العاملة الماهرة والرخيصة، ويحول اقتصادات دول المركز الى دول ريع واستهلاك شديدة الهشاشة، كما أظهرتها أزمة كورونا. وبدا بوضوح أيضاً ان تراجع القوة العسكرية ذات الصفة العالمية الذي ظهر الى العلن باعتراف رسمي بمحدودية ما يمكن للقوة العسكرية العالمية القيام به، مع الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان وما رافقه من مواقف على لسان الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي يرمز بتاريخه الى عصارة النظام العالمي الذي ولد من رحم الحرب الباردة. وليس خافياً في دراسات كبار العسكريين الغربيين أن أهم ما تسبب بحدوث مأزق القوة العسكرية العالمية التي مثلتها في الذروة الحالة الأميركية، ومهد الطريق لتناميه، عائد لمترتبات العولمة نفسها التي يفترض انه جاء لخدمة نسختها من الهيمنة، فتصدّعت الروح المعنوية للجيوش بفعل منظومة مفاهيم الاستهلاك، وارتفعت أكلاف الحروب أضعافاً بسبب إناطة أجزاء أساسية من النشاط العسكري بالشركات وفقا لمفهوم الخصخصة، وترهلت همم القادة وتراجع استعدادهم للمخاطرة مع تحوّلهم الى رجال أعمال ينتظرون أرباح أسهمهم في البورصة.
– خلال عقدين طويلين كانت التطورات الجارية في العالم، تحول روسيا إلى دول عالمية عبر امتلاك أضخم شبكات عالمية لنقل الغاز، وتحوّل الصين إلى دولة عالمية بامتلاكها أضخم وأفضل شبكة إنتاج عالمية، وأضخم شبكة نقل وسلاسل توريد عالمية للسلع الأساسية، وكانت دول الغرب كباقي العالم تتحوّل الى سوق تستهلك موارد هذين المسارين الجديدين في العالم، وبالتوازي خلال عقدين طويلين من المواجهات العسكرية، كانت القوة العسكرية المركزية العالمية التي تمثلها أميركا تنتقل من فشل الى آخر أمام قوى محلية وإقليمية، وأحيانا دولية، كما هو حال حربي أفغانستان والعراق وحرب لبنان 2006، وحروب غزة، وصولا الى الحرب الفاصلة على سورية، وكان يثبت أن الرهان على الحروب الذكية والحرب الناعمة والنوم مع الشيطان، كما وصف الأميركيون التعاون مع تنظيم القاعدة، مجرد تجربة دموية غبية لا تغيّر الموازين، ومن قلب هذه المواجهات ظهرت إيران كقوة اقليمية عظمى تملك ما لا تملكه أميركا في الشرق الأوسط رغم فوارق المقدرات، بفعل الاستناد الى قوى حية وقضايا حية ومصداقية لتلاقي المفاهيم مع القضية الأهم في الشرق الأوسط التي تحتكرها القضية الفلسطينية.
– يكفي أن نتذكر ما أعلنته واشنطن لعقود طويلة حول أهدافها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وربطها بأمن «إسرائيل« وأمن الطاقة، والنظر الى حال هذين المفهومين ومدى تحولهما الى رهائن بيد قوى المقاومة التي تشكل إيران عمقها الاستراتيجي، لنعرف حجم التراجع الذي أصيبت به نظرية القوة العالمية المركزية. وهذا يعني أن التحولات التي تجري الآن على مساحة العالم والمنطقة ليس سهلا أن تقود الى نظام عالمي جديد، بل الى أنظمة إقليمية جديدة متحركة، ينخفض فيها حجم السهم الأميركي الى الأدنى، ويرتفع فيها حجم ووزن السهم الإقليمي والمحلي، الإيراني أولا والتركي والسعودي والمصري والسوري والجزائري، عندما نتحدّث عن الشرق الأوسط، وعاجلا أو آجلا سيكتشف الأوروبيون أن ما ينتظرهم هو نظام إقليمي مشترك مع روسيا فيه سهم أميركي ضئيل، لا يزيد عن السهم الأميركي في أميركا الجنوبية التي قيل يوماً إنها حديقة خلفية لواشنطن، وهي تتحول الى عقب أخيل للهيمنة الأميركية، كما سوف تكتشف اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان أن مستقبلهم أشد استقراراً وأمناً مع نظام إقليمي مشترك مع الصين بسهم أميركي ضئيل.
– يشكل التطور الأبرز للعولمة على الصعيد التكنولوجي إلغاء المركزية في منظومة الاتصال والمعلوماتية، بينما كان المشروع السياسي الإمبراطوري الذي نهض عليه يسعى الى فرض أشد أنواع المركزية، ليس فقط في السيطرة العسكرية، بل في تعميم نظام المأكل والملبس والعادات والثقافات والأخلاق، بصورة تجعل النموذج الأميركي معولماً حتى تصدق نهاية التاريخ، وها هو الأميركي لا يجد النص الذي أطلقه مع انطلاقة مشروع زعامة القرن الحادي والعشرين صالحاً ليخوض به حروبها، فالتنافس على الرفاه يعني تسليماً اوروبياً بالتفاهم مع روسيا على حساب أوكرانيا، وسقوط القضايا والهويات الوطنية ومفهوم السيادة يسقط كل الدعوات لصمود أوكرانيا، والترويج لسقوط القضايا والعقائد والقيم، يسقط نظرية ايمانويل ماكرون عن ثمن للحرية يجب دفعه، وعبر التاريخ عندما يجتمع السقوط الاقتصادي مع السقوط العسكري مع السقوط الفلسفي، يكون القتال بلا أفق، مجرد انتظار للكلمة الفاصلة يقولها الجنرال وقت، وليس لدى الجنرال وقت مشروعاً جديداً لنظام عالمي جديد يكثر الحديث عنه، بصفته تصميماً مركزياً لزمن اللامركزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى