أولى

من أوروبا إلى جنوب شرق آسيا: فتّشوا عن أميركا!

‭}‬ د. عدنان منصور*
بعد استسلام اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية، تمّ احتلالها من قبل الولايات المتحدة وحليفتيها بريطانيا وأستراليا، ما جعل اليابان تقع تحت الاحتلال لأول مرة في تاريخها.
قام الرئيس الأميركي هاري ترومان بتعيين الجنرال ماك آرثر قائداً أعلى لقوات التحالف، للإشراف على احتلال اليابان، ثم تقسيمها بين الحلفاء، إذ احتلت القوات السوفياتية جزر ساخالين وكوريل، فيما احتلت الولايات المتحدة بشكل غير كامل جزر اوكيناوا، وامامي، وممتلكات اليابان في مكرونيزيا. أما الصين فقد استعادت تايوان وبسكادوزر.
في عام 1951، انتهى الاحتلال رسمياً لليابان بعد توقيع معاهدة السلام معها، التي دخلت حيّز التنفيذ عام 1952 باستثناء جزر ريوكيد. لكن واشنطن فرضت على طوكيو معاهدة التعاون الأمني بينهما، حيث ضمنت بقاء عشرات الآلاف من القوات الأميركية في اليابان لأجل غير مسمّى، بعد أن دخل إليها عند نهاية الحرب ما يزيد عن 350 ألف جندي أميركي. وفي الوقت الحالي لا يزال يوجد حوالي 50 ألف جندي أميركي في اليابان بناء على «موافقة رسمية» يابانية.
بعد تقسيم شبه الجزيرة الكورية، وانشقاق تايوان عن الوطن الصيني، أضحى لواشنطن نفوذها الواسع المهيمن على جنوب شرق آسيا. إلا أنّ هذا النفوذ اصطدم لاحقاً بقوة عالمية متمثلة بالصين التي أخذت تؤثر بشكل كبير على الأحداث، والتطوّرات والأحلاف في شرق آسيا والمحيط الهادئ، ما جعل واشنطن تتأهّب لمواجهة التنين الصيني بكلّ حزم، وبروز كوريا الشمالية كدولة نووية حديثة، رأت فيها أميركا، أنها تؤثر بشكل خطير على السلام والأمن القومي لها ولحلفائها.
تايوان بدأت تشكل قلقاً كبيراً لطوكيو وواشنطن، جراء عزم بكين الحاسم على إرجاعها للحضن الصيني، بعد انفصالها عنه منذ عام 1949 وتسلّم الزعيم المنشق شان كاي شك السلطة فيها.
ترى اليابان ومعها واشنطن وحلفاؤها، أنّ الترسانة العسكرية الهائلة للصين، وكذلك الترسانة النووية لكوريا الشمالية، بدأت تشكل تهديداً استراتيجياً غير مسبوق لأمنهم القوميّ، من خلال التهديدات المتواصلة والاستفزازات من جانب بيونغ يانغ، وإطلاقها الصواريخ البالستية التي تعبر الأجواء اليابانية، ما دفع بطوكيو بعد وصول رئيس وزرائها فوميو كيشيدا إلى الحكم عام 2021 إلى إقرار ميزانية عسكرية تبلغ سنوياً 51.4 مليار دولار، مع تخصيص %2 من الناتج القوميّ للدفاع بعد أن كانت %1، وجعل اليابان واحدة من تحالف يضمّ الولايات المتحدة واستراليا والهند وكوريا الجنوبية لمواجهة «الخطر» الصيني المتنامي.
منذ عام 2021 وهواجس اليابان تزداد، نظراً لقربها من تايوان التي يفصلها عن جزيرة يوناغوني اليابانية 100 كلم. وهذا ما يجعل مضيق تايوان في دائرة النفوذ الصيني، لا سيما أنّ لهجة الصين لضمّ تايوان في تصاعد، في الوقت الذي لا يزال خلاف اليابان مع الصين مستحكماً حول جزر سينكاكو في بحر الصين الشرقي.
حيال ما يجري من تطورات في جنوب شرق آسيا وبالذات في بحر الصين الجنوبي والشرقي، وكذلك الحرب الدائرة في أوكرانيا، كان من الضروري لواشنطن التي توجّه حلفاءها، ان تقوم اليابان ودول الاتحاد الأوروبي، لا سيما ألمانيا، بتغيير سياسة التسلّح، وتقوية جيوشهم، وحثهم على زيادة الإنفاق العسكري، وتعزيز قدراتهم التسليحية.
في ألمانيا، وافق البرلمان ـ البوندستاغ ـ على تعديل دستوري يسمح بإنفاق المليارات لصالح الجيش الألماني، بعد أن سبق للمستشار الألماني اولاف شولتز أن أعلن أنّ ألمانيا ستمتلك قريباً أكبر جيش نظامي لدول الحلف الأطلسي في أوروبا، معتبراً أنّ ذلك، يعزز أمن ألمانيا وحلفائها بشكل كبير.
ألمانيا خصصت لعام 2023، 55 مليار يورو للإنفاق العسكري، فيما تعمل على إنشاء صندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو لتحديث الجيش الألماني.
أمام سباق التسلح الحاصل، صرّح وزير الدفاع الروسي سيرجيو شويغو يوم 1 كانون الأول 2022، انّ روسيا تعتزم زيادة موازنة الدفاع بنسبة %150 عام 2023، وأنّ هذه الزيادة ستساعد في تنفيذ %99 على الأقلّ من الأوامر والمهمات التي تطلبها الوزارة، ونشر أنظمة صواريخ جديدة.
الاندفاع نحو التسلّح سيضع أوروبا وجهاً لوجه أمام روسيا، كما سيضع الصين وروسيا وكوريا الشمالية في مواجهة كلّ من الولايات المتحدة، واليابان، وكوريا الجنوبية وتايوان في جنوب شرق آسيا، حيث يتراجع نفوذ واشنطن فيها، ما يدفعها الى استفزاز الصين من خلال المناورات العسكرية التي تجريها مع اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية وغيرها. وما الزيارات الرسمية الأميركية لتايوان، إلا لتؤكد على دعم واشنطن المطلق لها، وحمايتها من ايّ عمل عسكري ضدّها، وضمان انفصالها عن الصين خلافاً للوضع القانوني والقرارات الدوليّة ذات الصلة.
الولايات المتحدة لا تنفكّ عن رصد روسيا وتحريض حلفائها في أوروبا ضدّها، وتحريك دماها من وراء الأطلسي لتدفع بهم الى المواجهة. وما أوكرانيا زيلينسكي إلا النموذج الحيّ!
أمام هذا الواقع، تبقى أوروبا، وغربي آسيا، وجنوب شرقها على صفيح ساخن، وقودها سباق تسلّح خطير بين الدول الكبرى التي تبحث عن تعزيز نفوذها، وسيطرتها، لتجبر الآخرين على التراجع وإنْ كلّفها ذلك الكثير.
بين الدول الكبرى والدول الصغيرة، من السهل أن يفرض الأقوى قراره، لكن في الصراع بين الدول الكبرى التي تمتلك أسلحة الدمار الشامل، هنا يكمن الخطر. إذ لا مجال لأيّ قوة عظمى أن تتراجع أمام قوة عظمى منافسة لها، إلا إذا كان هناك من مغامر يدفع باتجاه المواجهة والحرب. وما أكثر المغامرين الذين عرفهم العالم. وما زيلينسكي إلا آخرهم في أوروبا التي بدأ اتحادها الأوروبي يؤشر الى التصدّع بعد إطلاق تصريحات في أكثر من دولة أوروبية تلوّح بالانسحاب من الاتحاد.
فمن جنى على أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، ومن الذي يؤجّج الاضطرابات والفوضى في غربي آسيا، والصراع في جنوب شرقها؟! مَن وراء الفتن والتنظيمات والحركات الانفصالية المسلحة، ومَن يوجه ويحرك الفصائل الإرهابية مجدّداً في العراق وسورية وإيران وغيرها؟! ومن وراء المؤامرات التي تطيح بالأنظمة الوطنية المعارضة لقوى الهيمنة في العالم؟! فتشوا عن الولايات المتحدة، فهي علة ومصائب الشعوب، وصانعة الحروب!

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى