أولى

«صمت القبور»

‭}‬ بشارة مرهج*
غريب أمر مجلس النواب حيال ما يجري في أروقة قصور العدل الأوروبية والخزانة الأميركية ومختلف دوائر العالم. والأدهى منه موقف القضاء اللبناني. يصدر تقرير “ألفاريز أند مارسال” الذي يثبت بالأرقام والوثائق معظم التهم الموجهة من القضاء الأوروبي، وبعض القضاء اللبناني، لحاكم البنك المركزي السابق رياض سلامة. بعد التقرير يصدر البيان الثلاثي الأميركي – البريطاني – الكندي الذي يدين ممارسات الحاكم مثبتاً سرقاته وتحويلاته وإيداعاته وتوزيعاته.
عواصم المال وما فيها من أوساط مصرفية وقضائية وسياسية وإعلامية تهتزّ لأخبار الحاكم وعصابة الخمسة ذات التفرّعات دون أن يبدو على مجلس النواب أو القضاء اللبناني الاهتمام المطلوب تجاه أمر غير عادي يخصّ لبنان ومستقبله، ويترك تفاعلات وتداعيات على مستوى العالم. مجلس النواب ينشغل بجلسة تشريعية لإصدار قانون على “عجل” بينما الحاجة ماسّة لعقد جلسة عامة لمناقشة الزلزال الذي ضرب لبنان والقطاع المصرفي وجيوب المواطنين، وبينما الحاجة أيضاً ماسّة لمعرفة حقيقة ما حصل لتطبيق العدالة والبدء في عملية استرجاع الأموال المنهوبة من سارقيها، خاصة أنّ بعضها أصبح معروفاً للقاصي والداني، في لحظة تتوقف فيها معامل الكهرباء عن الإنتاج ويختفي دواء السرطان وتنهار فيه تقديمات صندوق الضمان الاجتماعي.
لماذا ينام النواب نومة أهل الكهف بدلاً من أن يطرحوا الصوت ويأخذوا التوصيات اللازمة في جلسة مناقشة عامة تجاه المعنيين لدفع ما يترتب عليهم للدولة التي نهشوا لحمها وعظمها، كما تجاه المواطن الذي حرقوا أنفاسه؟
وهذا الكلام الذي يصحّ على القضاء أيضاً يجعلنا نتساءل: لماذا هذه البرودة؟ لماذا هذا الوجوم لدى القضاء اللبناني بعد وصول التحقيقات الأوروبية بشأن رياض سلامة الى نتائج ملموسة تؤكد انحرافه بل ضلوعه في الجرائم والمخالفات التي وضعت لبنان خارج إطار التعامل السوي بين الدول، وعلى هامش سلّم القيَم الذي لا يزال له اعتباره بين الأمم، وعلى تناقض مع الأخلاق المهنية التي لا يمكن ركنها جانباً لمجرّد تخلّي بعض الدوائر الرأسمالية المتوحشة عنها.
بيانات أوروبية متلاحقة ثم موقف أميركي بريطاني كندي صريح وصاعق، وقبل ذلك إرادة شعبية لبنانية كاسحة لتفعيل القضاء وكشف الحقائق وإخضاع المتهمين لحكم العدالة، كلّ ذلك لم يجعل مجلس القضاء الأعلى ينهض من “إجازته”، ليس بناء على توجيه من وزير العدل أو حكومة متلاشية، إنما استجابة لفكرة العدالة وإنصاف الناس الذين ينتظرون منذ زمن بعيد يقظة قضائية تعيد قصر العدل الى ألقه، وتعيد لبنان الى سكة السلامة. وانعقاد مجلس القضاء الأعلى أكثر من حيوي لدراسة ما يجري في العالم من أبحاث وقرارات بشؤون لبنانية تمّ إهمالها وتغريبها عن اللبنانيين عسى الأمر يقطع وعسى اللبناني ينسى! وكيف يقطع الأمر وينسى اللبناني و”الحدث اللبناني” يكاد يهزّ النظام المصرفي الأوروبي، وينال من منظومة الاقتصاد العالمي، ويشغل كلّ حلقة مالية أو مصرفية في العالم! “لبنان العاجق الكون” حقاً يشغل الرأي العام العالمي وأحياناً يكاد يغرقه في لجة الحيرة والتساؤلات فيما المسؤولون في لبنان يتحدثون عن الموضوع ـ هذا إذا تحدثوا ـ وكأنه يجري في مجاهل قصية لم تنعم عليها الحضارة برعشة عمران أو رشفة لوغاريثم أبدعها منذ قرون محمد بن موسى الخوارزمي.
أتساءل مع العديد من اللبنانيين لماذا يتخلف المسؤولون في لبنان عن البحث في المحنة التي أصابتهم ودكت أسس النظام اللبناني؟ لماذا كل الأمور مهمة إلاّ هذا الأمر؟ انّ هذا التخلف لا بل هذا الامتناع يثير التساؤل وأكثر من ذلك، انه مثير للريبة والشك. انه بالأحرى “صمت القبور”.
*نائب ووزير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى