مقالات وآراء

سياسة التجويع والتعطيش من فصول الإبادة الجماعية في غزة

أحمد عويدات

مع دخول الحرب الفاشية الصهيونية على قطاع غزة شهرها الخامس، يتفاقم سقوط المنظومة الأخلاقية والإنسانية للعالم الغربي، في مستنقع الصمت والهوان والتعامي وصمّ الآذان عن جرائم قوات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني. هذه الجرائم التي أوقعت حتى الآن، ما يزيد على 100 ألف بين شهيد وجريح ومفقود؛ جلهم من الأطفال والنساء وكبار السن، وتشريد نحو مليون وتسعمائة ألف، ودمار حوالي 75% من أبنية ومنشآت ومرافق القطاع.
وتأتي سياسة التجويع والتعطيش، لتشكل شاهداً حياً على نازية وفاشية الكيان الصهيوني، وقياداته العسكرية والسياسية، وهي الوجه الآخر لجرائم الإبادة الجماعية. فقد منعت أو عرقلت قوات الاحتلال وصول المساعدات إلى كافة مناطق القطاع، بل تعمّدت قصفها من البحر مؤخراً، وقيام المستوطنون بمهاجمة ومنع شاحنات المساعدات من عبور معبر كرم أبي سالم. وهذا ما أكده المفوض العام للأونروا بقوله «إن آخر مرة أوصلنا فيها الطعام إلى وادي غزة وشمالها كان في 23 يناير/ كانون الثاني، وأن نصف طلباتنا لإيصال المساعدات رفضت منذ بداية العام».
إنّ كلّ هذه الممارسات تشكل خرقاً واضحاً وفاضحاً لما جاء من إجراءات احترازية في قرار محكمة العدل الدولية، والتي تنص أنّ «على إسرائيل أن تتخذ إجراءات لتحسين الوضع الإنساني في غزة».
وما إطلاق الحملة العدائية لدور الأونروا الإغاثي والإنساني، في هذه الفترة العصيبة التي يمرّ بها اللاجئون الفلسطينيون، إلا تأكيد وتصميم على الإمعان بسياسة التجويع والتعطيش؛ لما تشكله الأونروا من ذراع طويلة، وقناة هي الأهمّ لإيصال المساعدات الإنسانية، من مواد غذائية وطبية ومستلزمات العيش الأخرى. وهذا ما أكده الأمين العام للأمم المتحدة غوتيرش بقوله «إنّ الأونروا تشكل العمود الفقري للجهود الإنسانية في غزة».
وفي هذا السياق، يأتي احتجاز الكيان الصهيوني 2 مليون دولار مخصصة للأونروا في بنوكه، ومحاولات المستوطنين إغلاق مقرات ومنشآت خاصة بهذه المنظمة الأممية، لتضييق الخناق عليها، وحصارها مما يعني حصار اللاجئين الفلسطينيين؛ لكونها تمثل شريان حياة بالنسبة لهم.
وإمعاناً بفرض التجويع والتعطيش على سكان القطاع، استهدفت قوات الاحتلال مستودعات ومخازن المؤن والمواد الغذائية، وطوابير الأهالي، الذين اصطفوا ليظفروا ببعض الطعام والماء؛ إذن فالأمر لم يعد يقتصر على منع إدخال المساعدات. مع التذكير بأنّ إدخال المساعدات للسكان الآمنين زمن الحرب، مسألة غير قابلة للتفاوض، أو المساومة السياسية، كما تفعل دولة الاحتلال وداعميها؛ لأنّ ذلك يتعارض مع القانون الدولي الإنساني، الذي وافقت عليه 153 دولة، ويشكل أيضاً خرقاً لقرار الشرعية الدولية بوجوب حماية المدنيين.
وفي سياق متصل، قالت المقرّرة الأممية لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا البانيز: «إنّ المجاعة التي يعانيها سكان قطاع غزة لا نظير لها في العالم كله، وأنّ هناك أموراً تدعو إلى الصدمة، بعد القرار التاريخي لمحكمة العدل الدولية، وأنّ الدول الأعضاء لم تنفذ حتى الآن أوامر المحكمة، وأول هذه الدول «إسرائيل»، وهنا لا بدّ من إتخاذ كلّ الإجراءات لمنع الإبادة الجماعية».
من البديهي القول، إن الانسداد والفشل الميداني للقوات الغازية دفعهم إلى افتعال هذا الوضع الإنساني الكارثي، وهذه المجاعة الحقيقية؛ التي بلغت مستويات غير مسبوقة في أي بقعة من العالم. وكما أفاد المفوض العام للأونروا أن «هناك أكثر من 300 ألف من السكان بحاجة إلى مساعدتنا ليبقوا على قيد الحياة».
اليوم في غزة وفي القرن الحادي والعشرين وفي أكثر المناطق خصوبة بالعالم؛ يضطر الأطفال إلى أكلّ علف الحيوانات، وشرب الماء غير الصالح للشرب؛ بعد قصف وتدمير مضخات المياه والآبار، وتجريف الأراضي الزراعية، وإتلاف المحاصيل. هنا في غزة التي كانت مليئة بالمشافي والعيادات ودور الرعاية والأمومة والتي لم يبقَ منها سوى النذر اليسير؛ تلد النساء بالحمامات والمراحيض، ويعيش الأطفال الرضع في بيئات غير صحية.
في قطاع غزة؛ تفترش الأسر الأرصفة بالعراء والبرد القارس في خيم متهالكة بين القذائف وقسوة الطبيعة. هنا تنتشر الأوبئة والأمراض المعدية والمعوية؛ بسبب شحّ الأدوية والمستلزمات الطبية أولاً، والإكتظاظ السكاني الهائل ثانياً.
إلى ماذا ترمي دولة الاحتلال من جريمة التجويع والتعطيش والبيئة غير الصحية وغير الآمنة؟!
من الواضح تماماً، إنها تهدف إلى زيادة معاناة الغزيين الذين دمّرت بيوتهم وفقدوا ذويهم وبالتالي دفعهم نحو التهجير القسري. كذلك التأثير على معنويات أهل القطاع وزرع الانقسام في الشارع الفلسطيني، كما تهدف إلى كسر قوة وإرادة وصمود المقاومة. وكأن الأطفال والنساء هم من يحملون قواذف RPG والياسين والتاندوم، أو هم من يزرعون عبوات شواظ، أو من يطلقون صواريخ القسام وبدر وغراد، أو هم من يشتبكون مع الجنود الصهاينة من مسافة صفر.
إنّ قصف شمال غزة فقط بما يعادل أربعة أضعاف القنبلة الذرية، التي ألقيت على هيروشيما اليابانية؛ أتى على كلّ جوانب الحياة الفلسطينية، من بنى تحتية، ومنشآت سكنية، ومشاف ومدارس وجامعات، ومساجد وكنائس، ومواقع أثرية، وتوجها الاحتلال بجرائم التجويع والتعطيش، ونشر الأوبئة والأمراض.
ألم يسقط بالأمس 13 شهيداً وهم يحاولون الحصول على رشفة ماء؟!
أليست هذه من جرائم الإبادة الجماعية؟ أليست هذه الجرائم من مسؤولية الدول، التي تمدّ جسراً جوياً، وأحياناً برياً وبحرياً؛ لدعم دولة الكيان الصهيوني بالسلاح والعتاد والمواد اللوجستية الأخرى؟
ألم يحن الأوان لكي تستفيق ضمائر هذه الدول من سباتها أمام هذا الموت النازل بكلّ أشكاله بأطفالنا؟
وبعد، ماذا سنروي لأطفالنا الذين لم يلدوا بعد، ولأطفالنا الذين عاشوا في رحم الإبادة والدمار، والجوع والعطش والمرض؟
لا نملك إلا أن نقص لأطفالنا قصصاً عن الجد والحفيدة «روح الروح»، والفتاة الصغيرة «عرفت إمي من شعرها»، وعن الأخت لشقيقها «أنطق الشهادة»، وعن الرجل المسنّ «وين نروح ؟ من موت لموت؟» وقصة الشاب محمولاً على نقالة الإسعاف «نزلوني، بديش أطلع من بيتي، بدي أموت هان»، أو قصة الإيثار لطفلة من تحت الأنقاض «طلعوا جدي وستي وأمي وأخويا، بعدين أنا»، أو نروي لهم قصة إعدام على الهاتف لأخت هند والتي بدورها خطفت مع طاقم الإسعاف ولما تعدّ بعد «أنا هون يما مع هند بسيارة الإسعاف محاصرين.. آه.. عم بطخوا علينا…»
أم عن الجد الذي حمل حفيديه الرضيعين مخاطبا بايدن «إيش عملوا هدول… إيش ذنبهم؟»، وهل نروي لهم قصة صمود الصحفاي الجبل وائل دحدوح عندما فقد أفراداً من أسرته وقال: «معلش، الحمد لله»…
في النهاية، هل سيصدقون هذه الحكايات التراجيدية، أم سيقولون إنها سوبرخرافية. لا… هؤلاء ليسوا أرقاماً؛ بل لكلّ منهم قصة حياة. وما هذه إلا ملحمة التاريخ، وأسطورة شعب لم ولن يهزمه التجويع والتعطيش وكلّ أنواع الإبادات…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى