أولى

الانتخابات الرئاسيّة ومهزلة توقيتها…!

‬ د. عدنان منصور*

من يتتبع التصريحات والمعلومات التي يُدلي بها المسؤولون، والسياسيون، والمتتبّعون للاتصالات والوساطات الجارية إلى وسائل الإعلام، او المعلومات التي يطلّ بها هذا أو ذاك، المتعلقة بانتخاب رئيس للجمهورية، وتوقيته لتاريخ الانتخاب الذي يحدّده من تلقاء نفسه، يثير فعلاً العجب والاستغراب. إذ أنّ بازار التوقعات كثير، في بلد تعوّد على الفراغ، وتستهويه التنبّؤات، فاسحاً المجال أمام من هبّ ودبّ من المحللين، لمتابعة آخر المستجدات لانتخاب الرئيس العتيد.
منذ سنة ونصف السنة، هناك من جزم بأنّ انتخاب الرئيس سيتمّ قبل نهاية عام 2022، وهناك من أخذه الى مطلع عام 2023، وبعد ذلك توالت التواريخ تباعاً قبل وبعد كلّ حدث جديد يطرأ على الساحة السياسية اللبنانية وعلى المنطقة، حيث ربط العديد من المحللين توقعاتهم لإجراء الانتخابات الرئاسية بالحدث المستجدّ، وما أكثر الأحداث المستجدّة التي يعاني منها هذا البلد التعيس داخلياً وخارجياً!
لا شك في أنّ عملية انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، تشكل مادة دسمة للسياسيين والإعلاميين، للظفر بسبق خبر جديد مرتبط بها، وإنْ كان الخبر أحياناً غير دقيق، وليس في وقته. هناك من حسم الأمر سابقاً، واعتبر أنّ الانتخاب سيتمّ بعد زيارة المبعوث الفرنسي لودريان، وهناك من ربطه بالخماسيّة والوضع الإقليمي، معوّلاً على تفاهمات بين دول إقليمية ودولية. وهناك من جزم بثقة عالية، بأن الانتخاب سيحصل في شهر أيلول عام 2023، وآخرون قالوا قبل نهاية العام، ومنهم من جيّر الانتخاب إلى العام 2024!
تكهّنات وتواريخ لا نعرف كيف تنهال، ومن أين أتى بها «المحللون» والسياسيون، وحدّدوها بكلّ ثقة عالية مفرطة، حتى كاد انتخاب رئيس الجمهورية يدخل في بازار التنجيم والتبصير أكثر من باب الواقع، ما جعل هؤلاء بعيدين عن ملامسة حقائق الأمور بموضوعية وواقعية.
منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق العماد ميشال عون وحتى اليوم، كم من المرات حدّد فيها المتتبّعون والمحللون للشأن الانتخابي، مواعيد الانتخاب التي لا زالت تطلّ علينا من حين إلى آخر، وهم يربطون عملية الانتخاب بمواقف دول إقليمية وغربية، من الولايات المتحدة، مروراً بفرنسا والسعودية، وصولاً الى قطر ومصر وإيران، ومن يدري بعد ذلك الى روسيا أو الصين، وغيرها!
ألا يعلم هؤلاء بعد، أنّ انتخاب رئيس للجمهورية يتمّ فور حصول التوافق الداخلي مهما كانت مواقف الجهات الخارجية المعنيّة بانتخابات رئيس الجمهورية! وما دام هذا التوافق الداخليّ لم يحصل حتى الآن، فلا داعي للاجتهاد والتخمين، والتنبّؤ بشهر الانتخاب، أو ربط موعد الانتخابات الرئاسيّة بأحداث وتطورات إقليمية ودولية يراهنون عليها، قد تحصل او لا تحصل.
هل التسرّع في تحديد اليوم أو الشهر أو السنة يريد منه صاحبه أن يثبت أنه عليم ببواطن الأمور، ويعلم ما لا يعلمه الآخرون من صناع القرار السياسي، في حين نجد أنّ توقعه وتحليله شطح بعيداً، ولا ينطبق على واقع الحال، ولا يتماشى مع تطورات الأحداث.
هذا الأداء السياسي والإعلامي، يضع على المحك حرفية المحللين، ويكشف كيفية تعاطيهم مع الحدث من رؤية شخصية، وزاوية ضيقة.
هل يتصوّر أحد أنّ المواطن اللبناني المسحوق، يهتمّ الآن ويعوّل الآمال على انتخاب رئيس للجمهورية، وهو يرى مقومات الوطن، والدولة، والسلطة، والسيادة، والمؤسسات استبيحت على يد طغمة فاقدة للحسّ الوطني، وعديمة المسؤولية، تنتهك كلّ يوم وحتى اللحظة الدستور، وتخرق القوانين، وتشلّ القضاء، وتعجز عن انتخاب رئيس، فتلجأ كالقاصر الى من تلجأ إليه ليأخذ بيدها، بعدما أثبتت للعالم كله مدى عجزها، وتخلفها، ولامبالاتها، وفضائحها في إدارة الدولة، وفشلها في صون مؤسسات البلاد.
هل يتصوّر عاقل، أنّ لبنان بحاجة الى رئيس تسوية مؤقتة برعاية الآخرين؟! تسوية سرعان ما تتصدّع على يد خلافات الإخوة الأعداء في الداخل، ليعود في ما بعد، إلى الفراغ المدمّر الذي اعتاد عليه.
ما جرى خلال السنة ونصف السنة الأخيرة لا يبشر بالخير، ولا يدلّ على انّ المنظومة السياسية التي تحكم البلاد سراً وعلانية، اتعظت وتريد أن تترفّع عن أنانيّتها، ومصالحها الخاصة، كي تبني وطناً عصرياً بعيداً عن الفساد، والصفقات الماليّة، التي سبحت فيها.
فمن ساهم في إذلال شعب وسرقته، وكان السبب الأول لتحلّل مؤسسات الدولة وانهيارها، لا يمكن الوثوق به مطلقاً، وفي أيّ وقت، أو الرهان عليه على المدى القصير او البعيد، مهما كانت الصفات الحميدة التي سيتحلى بها الرئيس القادم. فكفى استغفال الناس،
وكفى سياسات العفنة التي مارستها وتمارسها الطبقة الحاكمة الظاهرة والعميقة، التي لا زالت تعبث بمقدرات البلاد ومستقبل العباد.
ما دامت هذه المنظومة المتماسكة قابضة على كلّ شيء، معها وبها، لن ينعم لبنان بالاستقرار السياسي،
ولا بالتنمية والأمن الاجتماعي، أياً كان الرئيس الذي سيأتي على رأس هذه الجمهورية المتهالكة.
في ظلّ الجو السياسي والأمني القاتم، يمضي المهتمّون بالانتخابات الرئاسية، في تتبع مستجداتها ويراقبون اصطفافات القوى السياسيّة، وما يصرّح به هذا وذاك، وما يفعلُه الخارج، فيسجلون المواقف،
والتعليقات، والتوقعات، حتى كاد المواطن المحبط اليائس، ينفجر من شدّة غضبه، يلعن السياسة والسياسيين، الحكام والمسؤولين، لما تركوه من مخلفات قذرة على باب وطن يحتضر، لن يعود إلى ما كان عليه، بانتخاب رئيس للجمهورية او بعدم انتخابه، طالما أنّ جراثيم المنظومة الحاكمة الفتاكة، لا زالت تتغلغل وتنتشر بسرعة في جسد الوطن، لتوصله الى الحالة البائسة التي وصل اليها اليوم.
ليس غريباً أن يعجز صناع القرار عن انتخاب رئيس للجمهورية، فمن خرق عمداً الدستور والقانون، واستباح المؤسسات، و»عجز» عن تبليغ استنابة قضائية للص كبير لا مثيل له، هارب من وجه العدالة، لن يجعل المواطن اللبناني يكترث لانتخاب رئيس للجمهورية، لأنه يعلم علم اليقين أنّ لبنان الذي نعرفه يحتضر، ولن يعود إلى سابق عهده، بعد أن بدّد الفاسدون في السلطة مقوّمات وجوده، ومسلمات بقائه، وخصوصيّته، ومزقوا نسيج شعبه، لتجعله المنظومة الحاكمة غريباً، منبوذاً، مهمّشاً على أرض وطنه.
متى يستفيق الضمير الغائب عند هؤلاء ويخجلون من أنفسهم ومن الشعب ومن العالم؟! ألم يشعروا بعد، كم هم أقزام في عيون الآخرين وهم يستقبلون الوافد، والمندوب، والمبعوث، والوسيط الواحد تلو الآخر، فيما هم بكامل فشلهم، وعجزهم، في إدارة الدولة ومؤسساتها!
هل يظنّ الفاسدون والمفسدون داخل الطبقة السياسية الحاكمة، ومعهم الوسطاء الدوليون الذين يعملون على تسهيل انتخاب رئيس البلاد، أنّ اللبنانيين الذين هاجروا مرغمين مكرهين، أو الذين سُرقت ونُهبت أموالهم على يد لصوص الدولة الذين ابتلى بهم اللبنانيون، او الباحثين عن عمل شريف ضائع، ولقمة عيش كريمة مفقودة، او عن فاتورة مستشفى ودواء تنقذ حياتهم، ولا يملكون قيمتها، او عن أقساط مدرسة او جامعة يعجزون عن دفعها، هل يظنّ هؤلاء انّ اللبنانيين يعوّلون الأهمية بعد اليوم على انتخاب رئيس للجمهورية، في ظلّ دولة عميقة متجذرة، يديرها الفاسدون والمفسدون، والقابضون على كلّ مفاصل الحياة لبلد يتحلّل منذ سنوات على يديها!
من سيدير الدولة بعد انتخاب الرئيس؟! رئيس البلاد المنتظر، أم المنظومة الفاسدة التي قضت على الأخضر واليابس!
فليتوقف هذا الهرج والمرج الذي يرافق في كلّ مرة الانتخابات الرئاسية، وليتوقف هذا الأداء الذي يثير اللبنانيين واشمئزازهم. هرج ومرج لا نراه الا في هذا البلد المبتلي بهذا الفصيل المحنط من الزعماء والمسؤولين، ليصبح فيه انتخاب الرئيس «العتيد» و»المنقذ» للجمهورية، حديث الساعة في الغرف المغلقة، والأماكن العامة، والمنتديات، و»المنتجعات» السياسية، ووسائل الإعلام، لتصبح عملية انتخاب رئيس للجمهورية، مهزلة من مهازل الطبقة الحاكمة القبيحة، وصفة حصرية لا نجدها إلا في لبنان!

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى