الاستحقاق البلدي والاختياري ..أول الغيث قطرة!
علي بدر الدين
المرحلة الأولى من الانتخابات البلدية والاختيارية كشفت بالوقائع والملموس زيف ادّعاءات الطبقة السياسية بأنه من المستحيل إجراء الاستحقاقات الدستورية في مواعيدها بذريعة أنّ الأوضاع الأمنية غير المستقرة تحول دون إجرائها.
وهذا ما ثبت بطلانه وعدم صحته، حيث كان الأمن مضبوطاً إلى أقصى الحدود، وقد يكون مثالياً بحيث لم يسجل أيّ إشكال أمني على مساحة ثلاث محافظات جرت فيها الانتخابات، وما حصل في بعض الأقلام مجرد مناوشات كلامية أو مخالفات إدارية أو تدافش بالأيدي من دون أن يلجأ المتدافشون ومَن معهم أو خلفهم إلى السلاح الممنوع والمحظور.
والذريعة الثانية التي أسقطتها العملية الانتخابية هي إخافة اللبنانيين بالخلافات السياسية المحتدمة بين الأفرقاء المغطاة بالطوائفية والمذهبية والخشية على حقوق الطوائف والمذاهب والمناطق لتدعيم هذه الخلافات الشكلية والوهمية والمصطنعة، التي سقطت في الجولة الانتخابية الأولى بالضربة القاضية. وأظهرت التحالفات الانتخابية العلنية منها والخفية ومن فوق الطاولة ومن تحتها، أنّ القوى الحزبية المسيطرة بمكوّناتها المختلفة وبدعم من السلطة السياسية وعلى قاعدة الغاية تبرّر الوسيلة، أن لا خلافات ولا اختلافات ولا مَن يحزنون، وما يجري هو تقاطع للمصالح الذي يفرض التنسيق الكامل بينها لإلغاء كلّ رأي آخر ولمصادرة الإرادات والحريات ولمواصلة نهج النفوذ والتسلط وإطلاق اليد في كلّ ما له علاقة بالسياسة والاقتصاد والمال والإدارة، لأنه وفق سياستها الأحادية وهيمنتها المطلقة والدائمة لا مكان للآخر أياً تكن حيثيته في هذا النظام السياسي الطائفي الفاسد، وبفضلها تحوّل إلى ملكية حصرية يتوارثها الأبناء أباً عن جدّ حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ورهانها على أنّ اللبنانيين لن يستفيقوا قبل عقود من الزمن بفعل جرعات التخدير وسياسات الترهيب والترغيب، والاصطفافات تحت عناوين وشعارات زائفة ومضللة تحاكي غرائزهم الطائفية والمذهبية والعقائدية، وأنه لا بديل أمامهم سوى الالتحاق بالقافلة التي توفر لهم الأمن والأمان، وإلا فإنّ ضياعهم ونهايتهم تكمن في تخلفهم عن اللحاق بها.
ربما نجحت الطبقة السياسية لغاية الآن في تدوير الزوايا المصلحية وفي تطويع الناس لبعض الوقت الذي طال قليلاً، ولكن هذه الطبقة الخلاقة في ابتداع التحايل السياسي وتطويل حبل الكذب، نسيت أو تناست أنّ في التاريخ شعوباً قلبت الطاولة على جلاديها وعلى حكامها الفاسدين، وأنّ ساعة التغيير آتية وهي بدأت تتدحرج وتكبر ككرة الثلج، وستتحوّل إلى كرة نار أو كرة حديد تدمّر الهيكل على مَن فيه.
من مؤشرات الزمن الآتي، وإنْ كانت متواضعة أو خجولة، ما تجلّى في جولة الانتخابات الأولى، حيث أثبت الآخرون المقهورون من اللبنانيين حضوراً وفاعلية وتأثيراً في مجرى المعارك الانتخابية وخاضوها بشرف وجرأة وشجاعة ورفعوا الصوت بعد طول انتظار الذي سيؤدّي حتماً إلى النهايات السعيدة، رغم تمسّك السلطة والطبقة السياسية المتحكمة بالقانون الانتخابي الأكثري الفاضح المتسلط الذي ألغى قوة انتخابية وازنة وتمثيلية في كثير من المناطق التي حصلت فيها الانتخابات، وهذا ظلم وإجحاف بحق شرائح كثيرة من اللبنانيين، وقمع سياسي بامتياز لإراداتهم وخياراتهم أياً تكن اتجاهاتها ومساراتها.
وليس عبثاً إصرار هذه الطبقة المهيمنة على كلّ شيء على التمسك بالقانون الانتخابي الأكثري، وهي القادرة على دفنه واستبداله بقانون أكثر تمثيلاً وتعبيراً عن توجه اللبنانيين، إذا رغبت وأرادت، وهذا ليس عجزاً منها أو فشلاً في إدارة أيّ قانون أو تغييره، ولكنها لا ترغب ولا تريد لأن في هذا القانون السائد منذ تكوّن النظام السياسي الطائفي مع تعديلات شكلية جداً لا تقدّم ولا تؤخر، تكمن قوتها وسطوتها واستمرار تسلطها ومصالحها المشتركة، وهي التي تدّعي الاختلافات في السياسة والتعاون والتفاهم والتنسيق في الانتخابات التي تطوي فيها الصفحات السود وتجعلها بيضاء ناصعة خالية من الشوائب، وتلغي منها انغماسها في المعارك والحروب التي قتلت ودمّرت وهجّرت وزوّرت ونهبت وتسلّطت وغلّبت مصالحها على مصالح المواطنين الذين أصبحوا في وضع يثير الشفقة، بعد أن جرّدتهم من كلّ حقوقهم المكتسبة، وجعلت منهم أوركسترا للتصفيق ووقوداً لمعاركها ولجني الثروات المالية التي فاقت كلّ تصوّر.
قد يكون من حقها أن تفعل ما تشاء وهي القوية القادرة، ولكن من حق اللبنانيين عليها أن توظف هذه القوة لخدمة لبنان وإنقاذه من مآزقه وأزماته ومشكلاته التي كانت سبباً فيها، وأن تطلق العنان لتحالفاتها الانتخابية كمقدمة لتحالفات سياسية وطنية من دون كذب أو خداع تتمثل بإنجاح جلسات الحوار التمديدية من دون رجاء أو أمل، وبتفعيل الحكومة لخدمة الناس، أن تسعى من أجل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وإنْ كان قراره خارج الحدود، وعليها أن تحاول وتعيد إليها القرار بعد أن تفكّ ارتباطها وارتهانها لقوى إقليمية ودولية. والأهمّ من ذلك أن تتحضّر للانتخابات النيابية بعد أن سقطت حجة الأوضاع الأمنية غير المستقرّة، وأنْ تعجّل في عمل اللجان النيابية المشتركة التي لا طائل منه، وهي التي ما زالت تبحث عن قانون انتخابي كأنها تبحث عن إبرة في كومة قش، وعبثاً تحاول لأنها مرتاحة كثيراً إلى القانون السائد الذي يؤمّن فوزها في أية انتخابات لاحقة، وإلا كيف نفهم أنّ 17 مشروع قانون انتخابي رُفضت وهي مركونة في الأدراج، لأنها لا تلبّي مصلحة الطبقة السياسية التي اعتادت على تكرار نفسها، وقد ملّ منها اللبنانيون في السرّ والعلن وعبّروا عنها في الإقبال الضعيف والمتواضع جداً على صناديق الاقتراع كتعبير عن رفضهم لهذه الطبقة، مع أنه ليس كافياً لسحب الثقة منها ولتحميلها مسؤولية ما بلغه لبنان.
لا نخجل من الاعتراف بأنّ الأمل بالتغيير ليس سهلاً وليس في متناول يد اللبنانيين، وغير أنه يبقى قائماً وقد بانت تباشيره، رغم ضآلته في باكورة الانتخابات البلدية والاختيارية التي رمت البذرة الأولى في الزمان الصحّ والمكان الصحّ، أو يبقى حلماً… ولا أحد يقدر على مصادرة الأحلام.
«أول الحلم بذرة» و»أول الغيث قطرة».