جوليا شعلة الأمل في زمن اليأس
فادي عبّود
لم يكن حضوري حفل جوليا تجربة عادية، بل كان رحلة في عالم غريب من الخيال استعدت فيه العديد والعديد من القيم والأفكار ومبادئ الحق والخير والجمال. لم تكن جوليا على المسرح مغنية أو مطربة أو فنانة، كانت جوليا على مسرح البلاتيا الصوت الصارخ في عتمة الفتنة والانشقاق واليأس، صوت تمرّد يقول: «لوما سميتك لبنان، ما كتبتك ما غنيتك».
لقد قيل وكتب الكثير عن جوليا، والعديد من المقالات الرائعة التي استوقفتني، إلا أن ما زرعته جوليا في قلبي وفي قلب الجمهور، دفعني إلى الكتابة اليوم. فحين دخلت حفل جوليا كانت تسكنني مشاعر اليأس والكآبة والإحباط، حيث أشعر في صميم قلبي أننا نفشل في كل يوم في بناء دولة قادرة تمثل العنفوان والكرامة والقيم، دولة الوطن الواحد والشعب الواحد، دخلت حفل جوليا بينما تطاردني هواجس الفتنة والفشل الاقتصادي والقومي، الانحطاط الفني والغياب الثقافي، الحقد الذي بات ينمو بين أطياف الشعب الواحد، التطرف والعنف وانجرافنا عن القضايا القومية.
عندما صعدت جوليا إلى المسرح بدأت عملية التطهير، واستعدت الأمل بأنه ما زالت هناك نفوس نظيفة وآذان تتذوق، وهناك شعب ما زال عنده تقدير للثقافة، وليس للفن المجرد، لأن ما قدمته جوليا هو ثقافة حياة وليس فناً فقط، فالفن كما نراه اليوم وكما يُعرّف في لبنان هو الأغاني الهابطة التي لا تقيم وزناً للذوق واللحن، هو ملكات الجمال التي تتكاثر كيفما كان من دون رقابة ومن دون رسالة هادفة، هو الابتعاد من المسرح والمعارض والجمال والموسيقى، لقد أعادت جوليا كل ذلك في تجلٍّ واضح على المسرح في ساعتين من الحلم الخالص.
لقد أدخلتنا جوليا عالماً من السوريالية، حيث ازدحمت المشاعر في ذاكرة من هم في حضرة تلك المرأة الملهمة، فهي تأخذك من الرومانسية والعشق الراقي إلى الوطنية والإباء والكرامة والعزة والمقاومة، وتعيدك إلى لبنان البسيط الرائع بعيون شعبه، فتعيد اكتشاف وطنك بعيون جوليا وهي التي لم تيأس من لبنان مرددة: «وحتى بالأيام السود ما نكرتك ما خبيتك».
تعطيك جوليا جرعة من كوكتيل يرمز إلى ما يحتويه هذا الوطن من قدرته على العشق والمقاومة معاً، على الغزل والصراع معاً، على القسوة والرقة معاً، على حب الحياة والصراع في سبيل مجتمع أفضل، وفي صوت جوليا أحسست بوحدتنا وبما أن ما يجمعنا هو أبعد بكثير مما يفرقنا. لم تكن جوليا على المسرح فنانة، لقد كانت ملهمة الكثير في لحظة حرجة من حياة هذا الوطن بأن ما يكتنفه لبنان هو عظيم، وتشعر بالخجل ليأسك من الوطن، وتشعر وأنت تسمع كل الجمهور يتفاعل معها بصوت واحد أنه غير صحيح أن الشعب اختار الرديء، وليس صحيحاً أن مشاعر الوطنية اختفت من قلوب الناس، وليس صحيحاً أن مشاعر العزة والكرامة أصبحت حبراً على ورق، وليس صحيحاً أن الفتنة باتت على أعتاب هذا الوطن، فمن يملك هذه المشاعر والقيم من الصعب أن تقوى عليه براثن الفتنة، وجوليا أعادت التذكير بها وبقوة، أعادت تذكير اللبنانيين بثورتهم وقيمهم وبعدوهم الحقيقي، أعادت التذكير بقيمة لبنان وقوته، أعادت العنفوان للجيش للحرية والكرامة، للمقاومة التي لم تتركها جوليا لحظة في وقت تخلى عنها كثير من ثوار الأمس وسياسيي اليوم، بينما بقيت جوليا الثائرة المتمسكة بقيمها الوطنية وبقي صوتها بوصلة للحق.
لم تقدر كل خطابات السياسيين وتصريحاتهم في الفترة السابقة على منحنا الأمل والثقة مثلما فعلت جوليا على مدى ساعتين، تعيدك جوليا إلى حضن الإنسانية الحقيقية بعد أن شوهت بعض الممارسات تاريخنا الحضاري والإنساني، فتظهر جوليا بردائها الأرجواني القاني كشقائق النعمان، كدماء الشهداء التي روت أرض الوطن، لتقول إن إنسانيتنا وثقافتنا ضاربة في الأرض وغير قابلة للتشويه مهما كثرت الصعاب، قدمت جوليا حفلاً استثنائياً يضاهي باحترافيته العروض العالمية، والاحتراف بات عملة نادرة في لبنان وعلى كل الصعد فتشعر بالفخر وأنت تشاهد هذا المستوى المتقدم من العروض في لوحات إخراجية إبداعية وتسمع ألحاناً عزفتها أوركسترا philarmonic prague بقيادة المايسترو هاروت فازليان. أتقدم بالتهنئة لهذا المستوى الرفيع جداً من الأداء والذوق لدى العازفين اللبنانيين والأجانب على السواء، لقد قُدّم إبداع حقيقي ومُزِج التانغو بالموسيقى الشرقية والكلمات العربية «المهضومة»، وألوان من الدبكة فيها نفحة جديدة مميزة، وكله ضمن إطار إبداعي وذوق رفيع متميز تجعلك فخوراً أن هذا الإنتاج يحدث على أرض لبنان.
نعم جوليا اختزلت كل قيمنا في ساعتين، كل مشاعرنا في ساعتين، كل انتصاراتنا وهزائمنا في ساعتين، جوليا اختصرت وطناً، وما انسب من تسمية ألبومها الجديد «حكاية وطن».
وزير سابق