المنتديات الثقافيّة… بين انشغال الراعي وغياب الضمير!
النمسا ـ طلال مرتضى
لم يعد خافياً للعيان ما تؤول إليه المشهدية الثقافية «السورية ـ اللبنانية» خصوصاً والعربية عموماً، من انحدارٍ وتقهقر وصل حدّ شفير الهاوية. لا بل ربّما تعدّى ذلك ليخرج إلى طور العلنِ كحالةٍ واقعة مُفرَزة برسم الحضور.
ولا بدَ من عروجٍ سريع نحو مَوَاطن الحكاية ـ من دون التلطّي وراء إصبع الحجج الواهية والادّعاءات التي باتت تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي بِهالاتٍ فضائحية مخزية ـ لوضع مبضع التشخيص فوق آه الوجع، والتي نتلمس يناعة قطوفها الأولى وإفرازاتها على الساحة الثقافية اللبنانية.
تلك الثقافة التي تحكمها وتشترط رواجها مرجعيات وعلائق حزبية، همّها الأوحد الحضور على الساحة، وحاملها للمنافسة هو «الأنا ولا غيري»، دونما النظر في معادلة الغثّ من السمين والأهم، التزام الصمت حيال ما ينبجس عنها من انعكاسات سلبية، ومن تعزيز النعرات وتلميع الشخوص على حساب المنجز. ولم يعد هذا خفيّاً على أحد.
أنت كَمُثقف، يكفي أن أسألك في أيّ منتدى أو لمّة تحضر أو تشارك، في بيروت أو لبنان عموماً، لِيتسنى لي أن أعرف ما هي طائفتك ولمن تتبع وما هو المردود الذي تحصل عليه تماماً.
ومِن هنا أيضاً، يبدأ الدخول في سراديب الثقافة السورية، التي بات مفرزها طافياً للعلن ومن دون خجل. وذلك عبر منتديات أو مقاهٍ تحمل مُسمّيات ثقافية ذات دلالات وطنية في ظلّ انشغال الرقيب وغضّه الطرف أحياناً كثيرة، تحاشياً لمرجعية هذه المنتديات في الخارج أو في الداخل، بحجّة «تكميم الأفواه وقمع الحرّيات الثقافية»، والتي جعلت تلك المنتديات تَتَفرعن ليصل الأمر إلى حدّ أن «المسئفين» القائمين عليها بالتطاول على هيبة الهوية الثقافية السورية، بحجة القانون أجاز لهم ذلك. وقد يتساءل البعض عمّا أعنيه بكلمة تطاول. أقصد طبعاً أن تلك المنتديات التي باتت تعجُّ بها مقاهي دمشق، والتي أول ما طعنت به ظَهر الدولة الراعية، هو إلقاء دور مديريات الثقافة والمراكز الثقافية، والتي لا أُنزّه موظّفيها «أي المراكز والمديريات» من التواطؤ لخلق جيل «مسئف» على حساب المثقف الحقيقي الذي تمّ عزله بفعل الوضع الراهن، لعدم اندمامجه بتلك الكنتونات والشُلليات التي وصل عطنها للأسف حتى حدود الصين.
وبالطبع هنا لا أعمّم في ما نسبت، وأعي تماماً، لو أن تلك المنتديات ومشغّليها همّهم ثقافيّ وطنيّ، ويتمتّعون بالنزاهة الأدبية، لكان حريّاً بهم أن يقيموا فعالياتهم في أيّ مركز ثقافيّ وتغطيها الحكومة التي لم تزل تدفع ولو الشيء اليسير.
والمؤلم جدّاً، هو ما يدور وما نتلقى الآن من قصص وحكايات مخزية حدّ القذارة، في تلك المنتديات والمقاهي، والذي يتأتّى كلّه على حساب دم الشباب الذي يراق لأجل الحفاظ على الهوية التاريخية والحضارية لسورية في ظل الهجمة السوداء، وهذا أبشع أنواع الطعنات، وهذه هي أبشع أنواع الطعنات حين يفتدينا أحد بروحه.
ولأنّ الكثيرين من «المسئفين» من أصحاب هذه المنتديات ما زالوا يعتقدون أنّ الحرب الكونية على سورية هي حرب «مطالب حقّة». لا أنفي الكثير منها ـ ظِلّ تسلّط الفاسدين ـ في مفاصل مهمّة من الدولة وأوّلها رعاة المشهدية الثقافية. بمعزل على أنها حرب شعواء لإلغاء هويتنا، حين نرصد الآن بائعي القهوة والنسكافيه، يوزّعون الدروع والأوسمة والنياشين على المبدعين، وأقول المبدعين، أي فورة الشاعرات اللواتي أصبحن بقدرة قادر وبين عشيّة وضحاها، فاعلات بانفتاح السويّة الثقافية ورفع سياقها ـ أي الثقافة ـ تلك الأوسمة التي أسمّيها «جلاءات أو مرحات» فوتشوبية تلصق على صفحات «فايسبوك» وغيره. بالتأكيد ليس هذا خافياً على المرجعيات التي تراقب بعين الرضى أو الحضور من بعض الفاعلين في وزارة الثقافة ومؤسّسة اتّحاد الكتّاب العرب الأب الراعي للثقافة والمثقّفين ـ المنتفعين ـ بعلمهم وتحت أنظارهم، وهم يعرفون أيُّما معرفة، أن بائعي «القهوة والنسكافيه» يشترطون على المكرّمات، أن تتوفّر لديهن مقوّمات خاصة، كـ«الصدر الوافي»، وأن تمتلك مقدّمة تضاهي مقدّمة ابن خلدون، ووسطاً يتعدّى الوسيط في العلوم، وأن تكون قادرة على فتح «السياقات» في أيّ مناسبة تستدعي حضوراً يمثّل الهوية الحضارية للبلد. ومن المؤكد أن اللواتي ساهمن وجهدن لرفع المعطى الثقافي وكُرّمن، أقولها بالفم الملآن، لا يفرّقن بين كلمة تفعيلة أو فتيلة. ليذهب الأمر إلى أبعد من ذلك حين شهدت مواقع التواصل حرباً ضروساً بين مقهيين ثقافيين دمشقيين وصلا حدّ التراشق بالسباب والتهم، لأنّ المقهى الأوّل استجرّ روّاد الثاني، ما حدا بأحد الطرفين أن يخرج عن طوره، ويجاهر بأنه ليس بمخطئ بما نُسب من تهمٍ إلى خصمِه الذي تطاول وسرق منه شاعرة من صنعه. أليس محقاً في هذا؟ تالله لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى، حتى تعاد تلك الشاعرة إلى بائع قهوتها.
بالله عليكم أيها «المسئفون» ارحموا سورية، ارحموا دمشق من زواياكم المظلمة، ومارسوا طقوسكم بعيداً عن «الياسمين» الذي كفر لانتهاككم حرمته. ولتتيقنوا أن انتصار سورية الحتميّ لن يكون إلّا بحماية «الهوية الثقافية» والتي هي بمثابة دريئة تحمي ظهور أولادنا الذين يفتدونها بدمائهم.
وقد يتساءل البعض ما جدوى هذا الكلام الآن؟ بينما كنتَ ـ أنا ـ أوّل من فتح خيمةً أدبية مع بعض الزملاء وعلى مرّ ثماني سنوات قبل الحرب، حيث كانت منبراً وملاذاً لكلّ مثقّفي دمشق آنذاك. شاركَ فيها كبار الأدباء، لكنها لم تصنع يوماً أديباً أو شاعرة.
والسؤال الذي أتركه برسمِ القائمين على وزارة الثقافة واتّحاد الكتّاب العرب، من خوّل «بائع القهوة» ـ الذي يتقاسم ثمنها خلسة مع المتسلّقين، البوّاقين وراء الكواليس ـ بأن يتمنبر ويكرّم ويوسم ويقدّر، ظلَّ حضوركم كَهيئة اعتبارية ومرجعية، مهمتها الأسمى تغطية ظهر الجيش الذي يقارع في الميادين؟!
ممّا لا شك فيه أنّ الساحة الثقافية العربية ليست على أحسن حال، بعد أن اصفرّت أوراق الربيع المزعوم، وعصفت بها الرياح الخريفية، والتي تركت خلفها مفرزاً جديداً، يتمثّل بوصول عدد كبير ممّن يدَعون بأنهم، حَمَلة لواء الثقافة الحرّة، وحاملي همّها وهمَ البلاد التي تركوها، «بعد تعرّضهم للقمع والاضطهاد والتغييب»، لِيصل بهم الأمر نحو تشكيل اتحادات وروابط ومنتديات همّها الأوّل الأوحد، إسقاط شرعية المؤسسات في البلد الأمّ، بحكم فسحة القانون المتاحة هنا في أوروبا. في حين أنّ حرّية تلك المنتديات والراوبط ترتهن على من يقف وراء ما ورائها.
بعيداً عن هذا كلّه وذاك، وبحكم وجودي في المغترب، أراهن أنّ أيّاً من هؤلاء «المسئفين» هنا على تجاوز حتى إشارة مرورية، لا التطرّق إلى ما يندرج تحت مسمّى الحرّيات وغيرها، بالمفارقة مع التجاوزات التي كانوا يرتكبونها في البلاد وفساد المؤسّسات التي كانوا أصلاً قيّمين على إدارتها من قبل، بعدما تحوّلوا إلى مومياءات متقاعدة، ظلّ العزلة الباردة، يستجدون النشوة عبر المنشّطات.
وهذا ما آل بالكثير من «المسئفين» في المغترب لأن يقوموا بحشد مَن هُم على شاكلتهم ويمتهنون «السآفة» في البلد، عبر تلميعهم وتنزيههم، بعد تعيينهم رُسُلاً وسفراء لتلك الراوبط. تلك البدعة الوبيلة التي تغزو الساحة الثقافية السورية ـ اللبنانية. لتطالعنا مواقع التواصل، بأنّ الرابطة الفلانية تمنح فلانة وفلاناً شهادة الدكتوراه الفخرية، الأمر الذي يستدعي عدم السكوت عنه بالمطلق. ومن باب السؤال ليس إلّا، ماذا تزيد كلمة دكتوراه فخرية في رصيد المبدع؟! والأنكى من ذلك أنّ هناك بعض الدكاترة الأكاديميين، وبكلّ فخر يكتبون على صفحاتهم: «لقد حصلتُ على الدكتوراه الفخرية من منتدى أو مقهى أو رابطة». لكن ما أودّ أن أشير إليه قبل أن أنهي ما بدأت به، وقبل أن يتمنبر أحدهم بنشر «جلاءة» الدكتوراه على صفحته ليتلقّى التبريكات بالمنصب الجديد، عليه أن يسأل أوّلاً ضميره: أليس في هذا الأمر إهانة له ولمكانته الأدبية والإبداعية؟ اللهم إلّا إذا كان هو في الأساس فارغاً، امتهن الثقافة ليتسلّق عبر سلّمها نحو ما يريد، أو بوّاقاً لمن يُمسّد ويعمل قوّاداً له. وتالياً من حقّه أن يرمي السؤال في وجه مكرّميه.
مَن هي الجهة المكرِّمة وتلك المُكَرِّمة، وما الثمن؟
في إشارةٍ، لا بدّ من الوقوف عندها، وهي ظهور موجة جديدة تحت مسمّى «المجلات الإلكترونية»، والتي أضحت مثل الشرك الذي يصطاد به ضعاف النفوس، الكتّاب المغمورين. ما يستدعي الأخير وبعد نشر «إبداعاته» إلى توجيه التحايا والثناءات إلى صاحب المجلة، والتي هي في الأساس ليست مجلة مرخّصة أو معترف بها. بل هي صفحة مثل صفحة «فايسبوك»، يمكن لأيّ شخص الاشتراك بها عبر رابط البحث غوغل «www.blogger.com». ونشر إبداعاته من دون الارتهان لمن يضحكون عليه. تحت مسمّى النشر في المدوّنات بِاسم مجلات.